سألَنا الأستاذ في كلية الإعلام التابعة للجامعة اللبنانية، وكان ذلك في نحو منتصف سبعينيات القرن الماضي عمـَّا إذا كانت أزمة لبنان أزمة حكم أم أزمة حكومة؟ وكانت الحـــرب الأهلية يومها في ذروة تأجُّجها وكان البلد منقسماً على نفسه وكانت هناك «جمهورية الفاكهاني» التي أقامتها منظمة التحرير في بيروت الغربية وكان الأمن الشقيق المستعار قد بدأ يفرض نفسه، لا في هيئة قوات الردع العربية بل في هيئة الخلايا الاستخبارية المستيقظة، وفي هيئة سرايا المغاوير التي جاءت بألبسة بعض التنظيمات الفلسطينية وأسلحتها.
لم تكن الإجابات عن سؤال أستاذنا واحدةً ولا مُوَحَّدة، فالأكثر رفضاً للواقع الذي بات يجثم على صدور اللبنانيين بثقله وبشاعته أصرَّ على أن الأزمة المستفحلة هي أزمة حكومة لا أزمة حكم، بينما الأكثر واقعية قال: بل إن لبنان يعاني أزمة حكم ليست طارئة ولا مستجدة ولا جديدة، والدليل أنه كانت هناك حربٌ أهلية قذرة وطاحنة في عام 1958، ويومئذ لم تكن المقاومة الفلسطينية قد ظهرت إلى الوجود بعد، ولم تكن المخيمات مسلحة، بل كانت تعيش ظروفاً مأساوية أسوأ كثيراً مما هي عليه الآن.
الآن في العراق أزمة حكم لا أزمة حكومة، والمؤكد أنه حتى لو كان في موقع نوري المالكي، كرئيس للوزراء، أي شخص آخر، سواء كان سنياً أو شيعياً أو كردياً أو من التركمان أو من الصابئة أو الآشوريين أو الشَّبك أو الفيليين أو الأزيديين لما اختلفت الأمور عما هي عليه الآن، والسبب أن هذا البلد ما إن خرج من قبضة صدام حسين الضاغطة القوية حتى وجد نفسه يغرق في مستنقع المذهبية الآسن، ووجد كل مكوّن من مكوناته يسعى إلى إقامة دولة داخل الدولة.
في لبنان، الذي بقي يعيش أزمة حكم حتى قبل أن يتشكل كدولة، لم يحاول أمراء الطوائف والمذاهب والأعراف إقامة أحزاب وطنية جامعة تصهر كل هذه المكوّنات، التي هي تشوهات سياسية، في إطار واحد بل إن هؤلاء الأمراء، للحفاظ على مواقعهم ونفوذهم ونفوذ عائلاتهم، قد أظهروا مقاومة «باسلة» لتمدُّد الأحزاب التي اعتُبِرتْ علمانية وغير طائفية، وهي حزب البعث العربي الاشتراكي ولم يكن قد ابتُلِى بوباء الانقلابات العسكرية والقادة الملهَمين بعد، والحزب الشيوعي، والحزب القومي السوري الاجتماعي... وفي وقت لاحق بعض التيارات الناصرية التي شكّلت الطابع الذي غلب على ما سمي «ثورة»!! عام 1958.
لم تستطع النـزعات العلمانية التغلب على الظاهرة الطائفية في لبنان، التي جرى استغلالها من قبل بعض دول وأنظمة الإقليم البعيدة والقريبة، وهنا فمن المعروف أن الفرنسيين يعتبرون أن الموارنة إقطاعية لهم ولنفوذهم في هذه المنطقة، وأن الروس، قبل العهد السوفياتي وخلاله وبعده، يعتبرون أن الأرثوذوكس تابعون لهم بحكم أن كنيستهم أرثوذوكسية، وكان الإنكليز، وربما مازالوا يعتبرون أن الدروز حلفاؤهم... أما السُّنة فقد كانوا في السابق جزءاً من سورية الدولة، وفي اللاحق هم إما جزء من العراق أو من مصر أو من المملكة العربية السعودية.
وكل هذا بينما الشيعة «المتاولة» لم يُحسبوا على أي دولة، ولم يصبح لهم انتماء خارجي إلا في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، إذ تم إنشاء «حزب الله» ليكون رأس جسر لنفوذ الثورة الإيرانية، وحيث بدأ الجنوب ومعه ضاحية بيروت الجنوبية ومعهما البقاع، تظهر كأنها من أحياء طهران أو قمّ أو مشهد، حيث مرقد الإمام علي الرضا.