بغداد ودمشق.. يقول التاريخ إنهما ظلا حليفين وأكثر من صديقين.. أول حركة تحرير ضد الاحتلال العثماني للدول العربية قادها ضباط أحرار من سوريا والعراق.. كانت أول مرة يستخدم أحد هذا التعبير "الضباط الأحرار". الثورة العربية الكبري التي ظهرت علي الشاشة في فيلم لورنس العرب - أول فيلم عالمي لعمر الشريف - أوضحت التحالف الهائل بين البلدين كما كتبها ضابط المخابرات البريطاني لورنس في كتابه الشهير أعمدة الحكم السبعة.. الشريف حسين أو الأمير الهاشمي كما كانوا يطلقون عليه أقام مملكته في سوريا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولي عام 1918. لكن فرنسا احتلت دمشق عام 1920 وفر الأمير الذي ينتهي نسبه للرسول كما يقولون إلي العراق وهناك ساعده الإنجليز - الذين كانوا ينافسون الفرنسيين علي اقتسام تركة أو أملاك الامبراطورية العثمانية - علي إقامة مملكته في العراق.. السوريون ظلوا طوال عمرهم ينظرون إلي العراق بأنه امتداد لهم.. ثورة رشيد عالي الكيلاني في الأربعينيات في العراق خطط لها ضباط سوريون وساعدوه.. حزب البعث الذي أسسه ميشيل عفلق وأكرم حوراني والبيطار في سوريا امتد بعد ذلك للعراق وأقام عفلق في بغداد حتي وفاته.. بل إن البعثيين السوريين فضلوا ديكتاتورية نوري السعيد العراقي علي ديكتاتورية الشيشكلي في سوريا بمنتصف الخمسينات وهاجروا إلي بغداد طلباً للحماية. العشق السوري للعراق انتهي بالانقلاب الذي قاده حزب البعث السوري عام 1966 ضد أمين الحافظ الذي كان آخر رئيس "سني" لسوريا وعين حافظ في هذا الانقلاب وزيراً للدفاع ثم أصبح رئيساً للجمهورية في فبراير 1971 وكان الانفصال النهائي بين العراق وسوريا.. إلا أن محاولة جرت أثناء حكم الرئيس أحمد حسن البكر للعراق لعودة المياه لمجاريها بين البلدين اللذين جمعهما التاريخ والجغرافيا. وبدا أن الأمور تقترب من نهايتها السعيدة وتتكلل بزواج ناجح هذه المرة.. لكن صدام "نائب البكر وابن شقيقته" انقلب علي خاله عام .1979 عام 1979 كان عام النهاية في علاقة الغرام والوله بين سوريا والعراق ففي هذا العام ارتمي حافظ الأسد في تحالف وثيق مع إيران الثورة الإسلامية انتقاما من علاقة التوتر مع الشاه وتحصينا لحكمه "العلوي" الذي يحكم شعبا من السنة.. وفي العام الذي بعده شن صدام حرب الثمانية اعوام ضد ايران.. حافظ الاسد انضم إلي مصر والسعودية في حرب تحرير الكويت من العراق عام 1991 ومن عاصمة سوريا ظهر اعلان دمشق الذي دعا لتحالف عسكري من دول الخليج الست ومعها مصر وسوريا ضد أي تهديدات عراقية في المستقبل.. كان هدف حافظ الأسد طمأنة الخليج من ايران.. ورغم الجفاء والعداوة بين صدام وحافظ إلا ان الأخير كان من الدهاء بحيث جعل للعراق بابا خلفيا في سوريا في أحلك ايام الحصار.. عبر الحدود السورية العراقية كانت المؤن تتدفق للعراقيين ومن بلاد الرافدين تم تهريب مئات الألوف من شحنات البترول بعيدا عن أعين الأمم المتحدة وشروط صفقة النفط مقابل الغذاء.. وجاء بشار إلي الحكم خلفا لوالده وسقط العراق في براثن الغزو والاحتلال الامريكي.. لكن فجأة اتهم الامريكيون سوريا بأنها تدعم المقاومة العراقية أو الإرهاب علي حد تعبير الامريكيين ثم قلدهم العراقيين الذين اصبحوا في سدة الحكم الآن وأولهم نوري المالكي.. هناك حقيقة هامة جدا وهي أن في سوريا مليون لاجئ عراقي معظمهم من قيادات البعث السابقة وبعضهم مليونيرات ويتولون دعم المقاومة السنية في العراق وتحديدا ما يقولون إنه فلول القاعدة! وهنا تبرز الاسئلة الصعبة في العلاقة السورية العراقية.. فإذا كانت دمشق هي التي شقت "البعث" العراقي وشكلت اجنحة موالية لها داخل العراق. فلماذا قبلت البعثيين كلاجئين لديها؟ والسؤال الأصعب لماذا يحرص بشار الأسد علي تدعيم المقاومة السنية العراقية ضد نظام الحكم الشيعي في بغداد الموالي لايران؟! المالكي حليف لايران التي تبذل كل جهدها لتثبيت الحكم في العراق. وطالما ان طهران ودمشق حلفاء سياسيا ومذهبيا فلماذا لا تهادن سوريا العراق وتمتنع عن إثارة القلاقل ضد نظام حكم المالكي؟! ما الذي دفع نوري المالكي إلي اتهام سوريا بانها وراء تفشي الإرهاب في بلاده ويهددها بأنه سيطالب بمحاكمة دولية لها علي غرار محكمة الحريري؟ وهذا طبعا لا يمكن ان يتحقق إلا بموافقة امريكية فهي التي تستطيع دعوة مجلس الأمن للانعقاد واصدار قرار المحكمة الدولية كما حدث في القرارين 1559. ..1636 إذن امريكا تحرض المالكي ضد سوريا وهو استجاب لها رغم علاقته الوثيقة بإيران! ونخلص مما سبق إلي بعض الاجابات التي ربما تعيننا علي فهم ما يحدث. 1 الأسد لا يثق في المالكي رغم انه علي علاقة وثيقة بإيران والأتراك.. أنقرة وطهران فشلا في التوسط بين دمشق وبغداد. 2 طهران تريد استقرار العراق مؤقتاً وتمني نفسها بالاستيلاء عليه بعد الانسحاب الأمريكي من خلال الائتلاف الشيعي العراقي المرتبط بها وذلك بعد 2011 موعد خروج القوات الأمريكية. 3 رغم الحلف الوثيق بين إيران وسوريا وحزب الله. إلا أن بشار الأسد يدرك خطورة قيام نظام شيعي في العراق موال لإيران.. ساعتها ستكون العراق الشيعية الإيرانية متاخمة لسوريا ومتداخلة معها خصوصا مع الحدود المشتركة بين البلدين التي تسكنها عائلات عراقية سورية مختلطة وهي حدود أوسع من أن يراقبها أي نظام وسكانها 4 ملايين نسمة.. وبالتالي لو قامت دولة شيعية في العراق ستجد دمشق نفسها مضغوطا عليها بشدة حتي لا توقع سلاما مع إسرائيل. وبالتالي تكون السياسة الخارجية السورية "أسيرة" لرغبة الامبراطورية الفارسية المقبلة. 4 من أجل هذا تزيد الشكوك في أن لسوريا ضلعا في زعزعة استقرار العراق مؤقتاً من خلال عمليات المقاومة البعثية السنية إلي أن تحل مشكلتها مع إسرائيل. 5 لسوريا تاريخ سيئ مع المالكي فقد رفض الاستجابة لمطالب الأسد عندما وقع الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة أن يجعلها تتضمن تعهداً من واشنطن بعدم مهاجمة سوريا. وكانت النتيجة أن سوريا تعرضت لعدة غارات أمريكية من أراضي العراق لمطاردة ما أسمتهم إرهابيين أو لتدمير ما ادعت انه مفاعل نووي صغير! وتبقي الحقيقة الساطعة وهي أن العلاقة السورية العراقية تعقدت إلي حد كبير. وفشل الأصدقاء المشتركون للطرفين "تركيا وإيران" في التوسط بينهما.. وهكذا السياسة فالتحالف القوي بين سوريا وإيران له أيضاً مضاره علي دمشق. لأنه لو قامت دولة شيعية في العراق فسينتهي أمل دمشق في استعادة أرضها المحتلة للأبد. وأزيد من عندي القول بأن سقوط العراق في أيدي إيران سيكون كفيلا بإنهاء التحالف المقدس بين العلويين السوريين والشيعة الإيرانيين.. ساعتها فقط ربما تبحث دمشق عن المسمي الذي اشتهرت به قديما وهو "قلب العروبة النابض". لكن السؤال هل سيكون للعروبة قلب وقتها مع ما يحدث في فلسطين ولبنان والعراق والسودان واليمن! أشك.