عدد الرسائل : 17047 الموقع : جريدة الامة تاريخ التسجيل : 24/09/2008
موضوع: لماذا ترفض دار الإفتاء الإعدام في بعض القضايا؟ السبت 12 سبتمبر 2009 - 4:21
قرأت تقريرا خبريا بموقعكم، جاء فيه أن دار الإفتاء المصرية حينما عرضت عليها قضايا الإعدام للتصديق، صدقت على معظمها، وردت بعضا منها ، فوقع في نفسي سؤال : لماذا ترفض دار الإفتاء التصديق بالإعدام على قضايا القتل؟ أليس القصاص حكما ثابتا من أحكام الشريعة الإسلامية؟ أليست محكمة الجنايات تعتمد الشريعة الإسلامية مصدرا من مصادر التشريع؟ ما سبب هذا الاختلاف أحيانا؟ هل للمحكمة مرجعية أخرى غير الشريعة الإسلامية ؟
الحل
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
لقد أجابت دار الإفتاء المصرية عن هذا التساؤل أيام كان المفتي فضيلة الشيخ جاد الحق على جاد الحق – رحمه الله- في محرم 1401 هجرية - 3 نوفمبر1981 م ، وذلك ردا من دار الإفتاء على المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، الذي طلب من دار الإفتاء أن تمده بتقرير وثائقي عن ضوابط الفتوى في قضايا الإعدام بالإضافة إلى معلومات أخرى.
وملخص ما أجابت به دار الإفتاء هو أنه بصدور القانون الجنائي الوضعي ولائحة الإجراءات الجنائية في مصر في أواخر القرن التاسع عشر، توقف تطبيق العقوبات المقررة في الشريعة الإسلامية (في الجنايات أو الحدود والتعازير) كما توقف تطبيق قواعد الإثبات في فقه هذه الشريعة عند النظر في الجرائم بوجه عام . فلا غرو أن يقع التباين بين حكم المحكمة المعتمد على القانون الوضعي وبين حكم المفتي الذي ينبني على الشريعة الإسلامية لاختلافهما في طرق الإثبات والإقرار والإنكار وغير ذلك.
وإليك نص ما جاء في بيان دار الإفتاء :
ضوابط الفتوى في قضايا الإعدام:
تحيل محاكم الجنايات وجوبا إلى المفتى القضايا التي ترى بالإجماع وبعد إقفال باب المرافعة وبعد المداولة إنزال عقوبة الإعدام بمقترفها، وذلك قبل النطق بالحكم، تنفيذا للمادة 381/2 من قانون الإجراءات الجنائية.
وهذا الإجراء معمول به منذ صدور القانون الجنائي الوضعي ولائحة الإجراءات الجنائية في مصر في أواخر القرن التاسع عشر، أي منذ نحو مائة سنة أو تزيد وبمقتضاهما توقف تطبيق العقوبات المقررة في الشريعة الإسلامية (في الجنايات أو الحدود والتعازير) كما توقف تطبيق قواعد الإثبات في فقه هذه الشريعة عند النظر في الجرائم بوجه عام .
وأصبح على محكمة الجنايات عند النظر في قضايا القتل العمد أن تسلك في الإثبات القواعد المبينة في قانون الإجراءات الجنائية، والذي استقرت قواعده ونصوصه أخيرا تحت هذا العنوان، وعليها أن تستكمل ما لم يرد فيه بما ورد في قانوني المرافعات المدنية والإثبات .
وكان لزاما أن تفسح أمام المحكمة معايير الإثبات الجنائي على ما تفصح عنه المادة 302 إجراءات إذ جرت عبارتها بأن يحكم القاضي في الدعوى حسب حريته، ومع ذلك لا يجوز له أن يبنيي حكمه على أي دليل لم يطرح أمامه في الجلسة.
وكل قول يثبت أنه صدر من أحد المتهمين أو الشهود تحت وطأة الإكراه أو التهديد به، يهدر ولا يعول عليه).
وفي هذا النص نجد عبارة (يحكم القاضي في الدعوى حسب العقيدة التي تكونت لديه بكامل حريته) -هذه الحرية غير المحدودة إلا بالقواعد العامة التي أشارت المادة إلى بعضها، تعطى المحكمة معايير واسعة في الاستدلال. بينما طرق الإثبات في فقه الإسلام جاءت مقننة ذات أبعاد وشروط ينبغي على القاضي التثبت من توافرها، ففي الشهادة يشترط النصاب، أي عدد الشهود وأوصاف أخرى يلزم توافرها في الشهود، وكذلك في الإقرار والإنكار واليمين وغير هذا من الطرق مما هو مبين في موضعه من كتب فقهاء المسلمينوبهذا لا يكون للقاضي تكوين عقيدته في القضية بكامل حريته، بل في نطاق الأدلة كل دليل بشروطه، ومن الأدلة التي قال بها الفقهاء ويعمل بها في الفتوى القرائن التي تنطق بها الوقائع والأوراق، أي القرائن القاطعة .
وبعد هذا التمهيد يمكن القول بأن ضوابط الفتوى في قضايا الإعدام تتلخص في أن المفتي حين يفحص القضية المحالة إليه من محكمة الجنايات، إنما يدرس الأوراق منذ بدايتها فإذا وجد فيها دليلا شرعيا ينتهي حتما ودون شك بالمتهم إلى الإعدام أفتى بهذا الذي قامت عليه الأدلة .
فعمل المفتي هو عرض الواقعة والأدلة التي تحملها أوراق الدعوى على أنواع وشروط الأدلة ومعاييرها في الفقه الإسلامي، دون الالتزام بمذهب معين، بل عند اختلاف الفقهاء يختار الرأي الذي يمثل العدالة وصالح المجتمع ذلك لأن لكل دليل شروطه التي يلزم توافرها حتى يؤخذ به قضاء على ما هو مبين في موضعه من كتب الفقه، وهذا هو منشأ الاختلاف الذي قد يقع وكثيرا ما يقع، بين الفتوى في بعض قضايا الإعدام، وبين الرأي الذي انتهت إليه المحكمة، لأن مستقى الدليل وضوابطه تختلف اختلافا بينا في القوانين الوضعية المعمول بها عنها في الفقه الإسلامي، المستمد من الأصول الأصلية للإسلام .
كما أن الفعل الذي أدى إلى موت المجني عليه تتفاوت عناصر تكييفه بأنه قتل عمد في الفقه الإسلامي عنها في القوانين السارية وليس ذلك اختلافا في تقدير الدليل، بل هو اختلاف في ذات الدليل وضوابطه ومعاييره، ففي فقه الإسلام يجري القاضي في الاستدلال على قواعد في كل دليله بحسبه، أما في هذه القوانين فإن القاضي يحكم في الدعوى حسب العقيدة التي تكونت لديه بكامل حريته في نطاق القواعد القانونية العامة.
وبإيجاز تصبح ضوابط الفتوى في قضايا الإعدام هي الالتزام بعرض الواقعة والأدلة حسبما تحملها أوراق الجناية على الأدلة الشرعية بمعاييرها الموضوعية المقررة في الفقه الإسلامي وتكييف الواقعة ذاتها وتوصيفها قتلا عمدا إذا تحققت فيها الأوصاف التي انتهى الفقه الإسلامي إلى تقريرها لهذا النوع من الجرائم، وهي إجمالا القتيل آدمي حي، وموت المجني عليه نتيجة لفعل الجاني ، وأداة القتل ووسيلته وثبوت قصد القتل، إما من الآلة المستعملة أو من الأدلة القضائية كالإقرار والشهود، وقصد إحداث الوفاة، فإذا توافرت عناصر التكييف وقام عليها الدليل أو الأدلة الشرعية كانت الفتوى بالإعدام.
أما إذا خرج ما تحمله الأوراق عن هذا النطاق، كان الإعمال لقول عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه الذي صار قاعدة فقهية في قضاء الجنايات لدى فقهاء المسلمين (لأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة) لأن القرآن حرم قتل النفس الإنسانية بغير حق، سواء كان هذا القتل عدوانا أو كان جزاء وقاصا .
فوجب التحقق من واقع الجريمة وتكييفها وقيام الدليل الشرعي على اقتراف المتهم إياها حتى يقتص منه.