الطبيعة .. هي دعوة أبدية الى الجمال والصفاء والطراوة، تربط المرء بعالم الحياة في المعمورة ولا تقوم بِعد أعوام، لانه لا يمكن الحساب الدقيق لاوقات الفجر والاصيل ومدى المأساة والسعادة. واذا القيتَ نظرة في نافذة لوجدت جلالة قوارب السحب السائرة بطيئا في السماء واصغيت الى نشودة المطر وهمس الاشجار والحشائش. وقبل فؤادك المزعج بعجلة يومية بالوحي الصادرعن الرسامين الموهوبين، الذين يكشفون عن صور وطننا الساطعة احيانا، والمأسوية احيانا اخرى.
ويعد اسحاق ليفيتان من اولئك الرسامين الروس الذين منحهم الله موهبة ومقدرة على ايقاف سير الزمن وتمكيننا من التأمل في اعجوبة تحيطنا ومساعدتنا في الايمان بقوة الخير وانتصار الجمال الظافر.
شهدت بلدة كيبارتي الصغيرة الواقعة في غرب روسيا عام 1860 ولادة رضيع اطلق عليه اسم اسحاق. ولم يكن اسحاق طفلا عاديا، فقد اعتاد ان يسعى وقت الاصيل الى ضاحية البلدة، ليشاهد مغيب الشمس والجمرات المتلاشية لاشعتها الاخيرة، ثم ينتظر صعود نجمة ليلية. وربما كانت تلك النجمة قدرا للرسام للفتي. كان اسحاق طفلا غريبا يتفادى التعامل مع الناس ويحب العزلة والتجول في الحقول، حيث اصغى الى غناء الريح وزقزقة الطيور. وكان ابوه موظفا فقيرا في محطة السكك الحديد الروسية، لكنه استطاع تقييم مدى موهبة ابنه ومنحه آخر مدخراته، ليغادر موطنه ومحيطه المكروه ويتوجه الى العاصمة الثانية للامبراطورية مدينة موسكو. واجتذبت موسكو القديمة الشاب باصالتها وجمالها في موسم الشتاء، حين يسمع المرء رنين الناقوس وتتحول الاصداء الصادرة عنه الى ظلال بنفسجية تسقط على كثبان ثلجية، وترسم فيها رسوما غريبة وقت المساء في شهر ديسمبر/كانون اول البارد.
والتحق الشاب البالغ الثالثة عشرة من عمره بكلية الفن التشكيلي والنحت، حيث أبرز موهبته من اول خطواته في التعليم. لكن ما ان شعر بسعادة التعليم والابداع، حتى صدمته مأساة وفاة والدته التي تلاها موت ابيه المصاب بحمى التيفوئيد. واضطر الشاب الى ترك الكلية لعجزه عن دفع نفقات التعليم، وتحول الطالب الشاب الذي لم يتجاوز عمره 17 سنة الى مشرد فقير. فساعده اصدقاؤه الطلبة، الذين قاموا بجمع مبلغ لتسديد ديونه، فعاد الشاب الى الكلية. الا ان الفقر ظل يرافقه طوال سنوات الدراسة فيها. وشاءت الاقدار السعيدة ان يلتقي اسحاق الرسام الشهير سافراسوف،مؤلف لوحة "الغربان" المعروفة، فلفت اسحاق انتباه الرسام، الذي دعاه للعمل في ورشته. واطلق الزملاء على سافراسوف لقب الرجل الغريب التصرف، فيما انه كان اكثر الرسامين حكمة آنذاك، حيث كان يعلم تلامذته
بقوله: "حان وقت الربيع وتفتحت البنفسجة في حديقة سوكولنيكي. فلنذهب الى هناك لنستمتع بانعكاس السماء في مياه نهر الربيع". واعجب سافراسوف بلوحة ليفيتان "
نهار الخريف في سوكولنيكي" فوصفها بانها مليئة بالحزن الخفي وانطباع يصعب التقاطه. ونشاهد في تلك اللوحة أمرأة منفردة تسير في الحديقة وتنزلق ظلال في دربها وتنحي الريح نهايات اشجار الصنوبر وتطارد الاوراق الصفراء الى حافتي الطريق. وتعد هذه اللوحة الوحيدة التي يظهر فيها هيكل انساني، اضافه الى لوحة نيقولاي تشيخوف، شقيق الكاتب الشهير انطون تشيخوف، الذي تعرف عليه الرسام الشاب في هذه الفترة، واصبح فيما بعد صديقا للكاتب، الذي كان يعالج أعصابه. فعرض الرسام لوحته في غاليري "تريتياكوف" وقبض 100 روبل جراء بيعها. وذاع صيت ليفيتان بفضل لقائه بالتاجر الغني سافا مامونتوف، الذي اقترح عليه ان يرسم الديكورات لاوبراه الخاصة. وانجز ليفيتان بالتعاون مع الرسام فاسنيتسوف هذا العمل الذي ساعد في نجاح اوبرا "جنية" من تلحين درغوميجسكس. كما ساهم هذا العمل ليفيتان في اثراء وتنويع طيف ألوان لوحاته وجعلها اقل قتامة واكثر فرحا. ثم دعا انطون تشيخوف صديقه ليفيتان ليرسم هناك بعض لوحاته. وجلب ليفيتان الى موسكو من القرم اكثر من خمسين رسما ولوحة صغيرة، اثارت دهشة جمهور موسكو. ولم تبين تلك اللوحات القرم باعتبارها منتجعا فاخرا، بل شبه جزيرة القرم القاسية بشمسها المحرقة وجبالها الشائكة. فانهمك ليفيتان في حياة نخبة موسكو
الفنية وصار يزورمنازل الاغنياء ويشارك في اقامة حفلات مختلفة. لكن الفن لا يغفر الخيانة لاي احد. فانتهت امواله بسرعة. واضطر الرسام الى الفرار الى ضفاف نهر الفولغا الذي ادهش الرسام بضخامته وجلالته. فلنتطلع الى لوحته
" الشاطئ الذهبي وقت الاصيل" التي تعتبر خطوة جديدة في ابداع ليفيتان واستيعابه للمغزى الخفي لمناظر طبيعة وطنه. وكأن السماء وماء الفولغا وشواطئها تسبح في السراب الذهبي المضئ، الذي يغطى كل شيء بضباب مسائي أزرق. وتثير اللوحة قلقا، شأنها شأن كل مساء. وتشكل هنا على ضفاف نهر الفولغا طبع ليفيتان باعتباره رساما كبيرا لمناظر الطبيعة الوطنية.
في يوم من الايام كان ليفيتان يتجول في ضواحي مدينة يوريفيتس، في منطقة وادي نهر الفولغا، ففاجأه دير اختبأ في الغابة، شكل
فيما بعد اساسا لاحدى احسن اللوحات التي اطلق عليها
" دير هادئ" والتي نشاهد فيها سطح النهر وبرج الكنيسة العتيقة المنعكس فيه قبل مغيب الشمس. يخيل للمتفرج، كأن الرسام يخاطب الطبيعة ويكتشف أصداء واردة منها في قلبه. وكأنه يعترف لها بحبه. في عام 1892 اصدر القيصر مرسوما قضى بطرد كل اليهود من موسكو، ومن ضمنهم اسحاق ليفيتان الذي حظي انذاك بشهرة حقيقية، لكونه رساما روسيا بارزا. فانهالت عليه الاتهامات بالتشاؤم، اثناء وصف طبيعة روسيا. وقالت احدى الصحف في بطرسبورغ حينذاك انه يتعمد اختيار مواضيع رمادية، لا تلفت نظر المواطن لروح التشاؤم السائدة فيها. وانتقل ليفيتان وصديقته الرسامة سوفيا كوفشينيكوفا الى قرية نائية في شمال روسيا، حيث عكف على ابداع لوحات جديدة من ابرزها لوحة "
فوق السكون الابدي" التي عكست نفسية لفيتان
المقهورة، في تلك الفترة، والتي تعتبر في الوقت ذاته ذروة الحوار الهادئ بين الرسام والطبيعة الروسية. في عام 1894 غادر ليفيتان روسيا ليعالج امراضه في اوروبا. وتبدأ المرحلة الابداعية الجديدة في حياة ليفيتان، بعد عودته الى الوطن في عام 1895. وابدع الرسام لوحة "مارس" التي تشيع التفاؤل وتعد نشيدا للطبيعة الوطنية، ومثلا يقتدي به رسامو الاجيال الصاعدة في وصف المناظر الطبيعية. وبين لوحات ليفيتان المتفائلة لوحة "الريح الطرية في الفولغا" التي عاد فيها الرسام الى موضوع نهر الفولغا المحبوب، والتي يصف فيها جماله وجبروته وحريته ورحابه. مما لا يثير اي شك ان لوحة "
الخريف الذهبي" التي ابدعها الرسام في تلك الفترة تعد من اروع لوحاته ومن اكثرها رومانسية . ويبدو للمشاهد ان الوان اللوحة الذهبية تغني وتوحي باسرار الطبيعة العابرة..
في عام 1987 توفى معلمه المحبوب الكسي سافراسوف، وهو ما أثر كثيرا على نفسية ليفيتان. وعلى الرغم من انه منح عام
1898 لقب الاكاديمي في الفن الشكيلى، ازدادت صحته سوءا. ونصحه الاطباء بان يذهب الى القرم للعلاج، فتوجه الى هناك عام 1999 ليلتقي بصديقه انطون تشيخوف، حيث اهداه اللوحة. فكتب تشيخوف لزوجته رسالة قال فيها: "لقد زارني اسحاق ليفيتان وخلف ذكرى هي لوحة رسم فيها الليلة وقت حصاد الحشائش والغابة والبدرالذي يسود في السماء والارض" عادت نوبات مرضه بعد الرجوع الى موسكو وصار ليفيتان يفقد الوعي حتى في اثناء اقامة معارض لوحاته. توفي اسحاق ليفيتان في 4 اغسطس عام 1900 في موسكو وخلف بعده اكثر من 1000 لوحة ورسم، يعود معظمها الى روائع الفن التشكيلي الروسي