اذا حاولنا ان نحصر مؤلفات الكاتب الراحل رجاء النقاش فسوف نذكر قائمة طويلة جدا ! واذا حاولنا ان نعدد الأدوار التي قام بها في خدمة الثقافة فسوف نذكر قائمة اطول كان النقاش صحفيا ورئيسا لتحرير صحف ومجلات مصرية وعربية عديدة، ولعب دورا في تقديم عشرات من القامات الكبري في الأدب والفن مثل الطيب صالح ومحمود درويش واحمد عبدالمعطي حجازي.. وغيرهم اما المقال التالي فهو من كتابه »شخصيات وتجارب«.
عندما يتعرض الإنسان لمحنة كبيرة أو صغيرة، فإن ذلك يكون تجربة له وتكشف عن معدنه، فإما أن ينهار الإنسان ويفقد السيطرة علي نفسه ومشاعره وأفكاره، أو أن يقف وقفة أخري يعتمد فيها علي قوة الإرادة والصبر علي ما أصابه، وهذا الموقف القوي لن يتاح للإنسان إلا اذا كان لديه الإيمان بأنه لم يخطيء ولم يقع في أي تهاون أو تقصير. وانه كان علي حق في آرائه وتصرفاته. وان مايتعرض له هو، نوع من الظلم والعدوان، والمحن التي يتعرض لها الإنسان هي أشكال وألوان، ولاشك أن الخيانة هي من أشد المحن التي يمكن أن يتعرض لها أي إنسان حر كريم ومن أشهر الخيانات مايندفع إليه بعض الناس من التطوع لكتابة تقارير أمنية زائفة ضد زملاء لهم وأصدقاء وإخوان وهذا النوع من الخيانة هو داء قديم يظهر ويتكرر في كل زمان ومكان. والذي يرتكب مثل هذه الخيانة هو في الغالب إنما يطعن صديقا له. ويطعنه بالباطل مستغلا في ذلك معرفته بهذا الصديق واقترابه منه وإلمامه بأحواله وأفكاره وظروف حياته والذي يقوم بمثل هذه الخيانة يكون له هدف أو قل إن له »غرضا« لأن الهدف كلمة هي أرق وأكثر شفافية من الغرض الذي يشير إلي المصلحة والأنانية والضعف والرغبة الملهوفة لتحقيق مكاسب بأي ثمن وعن أي طريق.
وللأسف فإن الواقع يقول لنا إن بعض الذين يمارسون هواية التطوع لاتهام اصدقائهم وزملائهم يحققون مكاسب ويقفزون إلي مواقع لم يكونوا يحلمون بها قبل ان يبيعوا أنفسهم للشيطان ويسارعوا إلي خيانة أصحاب لهم وأصدقاء وزملاء. والمقابل هو مكاسب مهما ارتفعت قيمتها فإنها تبدو من الناحية الإنسانية الخالصة سهلة ورخيصة.
وهذه حادثة من حوادث الخيانة وقعت في أثناء الثورة العرابية التي اشتعلت في مصر سنة٢٨٨١، وانتهت بالهزيمة العسكرية ايام قوات الاحتلال الانجليزي التي دخلت مصر بمساعدة عملاء خانوا بلادهم وفي مقدمتهم الخديوي توفيق ومحمد سلطان باشا وغيرهم ممن ادانهم التاريخ إدانة صريحة، ونزل بسمعتهم الوطنية إلي الحضيض.
والحادثة التي أشير إليها تتصل بالإمام محمد عبده »٩٤٨١-٥٠٩١«٠ وهو زعيم الإصلاح الديني في مصر والعالم العربي كله. بل هو زعيم من أكبر زعماء النهضة والتقدم في بلادنا في العصر الحديث، ويكفي هنا أن نشير إلي أسماء بعض تلاميذه الذين تأثروا به أشد التأثر وحملوا رسالته من بعده ومنهم: قاسم أمين وسعد زغلول ومصطفي عبدالرازق ومحمد مصطفي المراغي وغيرهم ممن تحملوا أمانة من أجل إخراج من الظلمات إلي نور الحضارة في النصف الأول من القرن العشرين.
تعرض الإمام محمد عبده للسجن بعد هزيمة الثورة العرابية تمهيدا لمحاكمته باعتباره أحد الزعماء المدنيين للثوار. وكان محمد عبده في ذلك الوقت في الثالثة والثلاثين من عمره، اي انه كان في عز قوته المعنوية والمادية معا. ولذلك فإنه تحمل ما تعرض له في صبر ورجولة وثقة تامة بأنه كان علي حق في مقاومة الاحتلال مع غيره من الوطنيين. فهولاء الوطنيون. والشيخ محمد عبده في مقدمتهم -لم يرتكبوا سوي »جريمة« واحدة هي الدفاع عن وطنهم ضد قوي أجنبية جاءت لاحتلال هذا الوطن والسيطرة عليه دون اي وجه حق او شريعة او قانون.
دخل الشيخ محمد عبده السجن متهما بأنه وطني، وبانه ثائر، وبانه كان يعترض علي احتلال الانجليز لمصر، وهنا حدث ذلك الشيء هو »الخيانة« فقد تطوع بعض أصدقاء الشيخ من السياسيين والمثقفين بكتابة تقارير ضده الي قوات الاحتلال، وامتلأت هذه التقارير بالاتهامات والتلفيقات والوقائع المزورة، وأبدي اصحاب هذه التقارير استعدادهم للشهادة امام المحكمة بأنها وقائع صحيحة، وكلها تدين الشيخ محمد عبده بتهم جديدة غير التهمة الاصلية وهي مقاومة الاحتلال الانجليزي، والوقوف ضد الحاكم الشرعي للبلاد وهو الخديوي توفيق، برغم ان هذا الحاكم قد فقد شرعيته عندما وضع يده في يد الاحتلال الانجليزي ضد شعبه وحكومة أنصار الذين كانوا يتظاهرون بأنهم أصدقاء له، إنهم من أنصار وتلاميذه، وقد حرص الانجليز من جانبهم علي ان يقدموا نسخة من هذه التقارير الي الشيخ السجين للرد عليها والدفاع عن نفسه ان كان لديه دفاع، فالانجليز وغيرهم من الاستعماريين يرتكبون جرائم الاحتلال ونهب ثروات الشعوب والوقوف في وجه اي تقدم للبلاد الخاضعة لهم والمغلوبة علي أمرهم، ولكن هؤلاء الاستعماريين مع ذلك كله يحرصون- من باب الاعلام والدعاية- علي بعض الشكليات مثل محاكمة المتهمين امام هيئة قضائية واتاحة الفرصة لهم للدفاع عن انفسهم او عن طريق محامين متخصصين، كل ذلك برغم ان الاحكام تكون جاهزة قبل ان تبدأ المحاكمة.
قرأ الشيخ محمد عبده التقارير المكتوبة ضده، وكتب رسالة الي احد أصدقائه أصبحت من تراث الشيخ آثاره الفكرية، وبرغم ان الشيخ لم يذكر أسماء الذين خانوه فإن صفاتهم واضحة، فهم من السياسيين والمثقفين الذين كانوا يلتفون حوله وينتفعون به عندما كان صاحب جاه ونفوذ قبل احتلال الانجليز لمصر.
وفي هذه الرسالة التي كتبها الشيخ محمد عبده وهو في محنته وسجنه يتحدث الشيخ في استنكار ومرارة عن داء »الخيانة« و»نكران الجميل« و»انعدام الوفاء« واستغلال الأزمات لالحاق مزيد من الأذي بالناس.. في هذه الرسالة يقول الشيخ محمد عبده »قدم وفلان تقريرين جعلا فيهما تبعات الحوادث الماضية علي عنقي، ولم يتركا شيئا من التخريف الا قالاه، ولم أتعجب من هذين الشخصين اذ يعملان هذا العمل القبيح، ويرتكبان هذا الجرم الشنيع، ولكن أخذني العجب اذ اخبرني المدافع عني »اي المحامي« بتقرير قدمه فلان الذي ارسلت اليه السلام، وأبلغته سروري عندما سمعت باستخدامه »للشهادة في قضيتي« وانا في هذا الحبس رهين. ولكن بلغني قبل ان أقرأ التقرير انه كتب شهادة بأقبح شيء، وهي شهادة لايكتبها الا عدو مبين. وعندما وصلني التقرير قرأته ووجدته كما بلغني عن هذا اللئيم، فقد كنت أظن أنه سوف يتألم لألمي، ويأخذه الأسف لحالي ويبذل وسعه ان أمكنة في المدافعة عني، فكم قدمت له نفعا، ورفعت له ذكرا وجعلت له منزلة في قلوب الحاكمين، وسوف ارد علي التقرير بما يسود وجه صاحبه ويخجله من نفسه ان كان انسانا ثم يكتب الشيخ في رسالته الي صديقه عبارة مهمة لها معني كبير هي: »لقد اخذت علي نفسي كل مسئولية تنسب اليكم، فما عليكم، ان سئلتم الا ان تكونوا منكرين«.
في هذه العبارة القوية يتحمل الشيخ محمد عبده مسئوليته في رجولة كاملة ويأبي أن يتحمل من أصدقائه أوتلاميذه أي اتهام من الاتهامات الموجهة إليه كل ذلك برغم ماتعرض له الشيخ من خيانة بعض المقربين منه، ومسارعتهم إلي كتابة تقارير أمنية ضده تفيض بالاتهامات والتلفيقات والذين كتبوا هذه التقارير أرادوا بيع »الشيخ محمد عبده« للإنجليز علي أمل أن يكسبوا من وراء هذه الخيانة الرخيصة بعض المكاسب، يبدو أنهم قد حققوا من هذه الصفقة بعض مايريدون.
وفي رسالة الشيخ محمد عبده التي هي في الاصل شكوي من الخيانة، مقاطع ترقي الي درجة مؤثرة من الشعر الصافي الجميل، ومن ذلك وصف الشيخ لنفسه، وهووصف لكل ماهونبيل وإنساني في هذه الدنيا، ويستمد هدا الوصف سحره وشعره مما نحسه فيه من نغمة الاسي والحزن، لأن الشيخ كتب رسالته وهو في محنته، وكتبها وهويتعرض لطعنات في صدره وظهره من الذين باعوه ليكسبوا من ذلك علي حساب معاني الوفاء والرجولة والوطنية.. يقول الشيخ عن نفسه في رسالته: »آه ما أطيب هذا القلب الذي ملأ هذه الحروف، ما أشد حفظه للولاء، ما أثبته علي الوفاء، وما أرقه علي الضعفاء، وما أشد اهتمامه بشئون الاصدقاء، وما أعظم أسفه لمصائب الذين بينهم وبينه أدني مودة، حتي لو كانوا فيها غير صادقين ماأبعد هذا القلب عن الإيذاء ولوللأعداء، ما أشده رعاية للود، ما أشده محافظة علي العهد، ما أقواه إقداما علي العمل الحق، والقول الحق، لايطلب عليه جزاء، وكم اهتم مصالح قوم كانوا عنها غافلين«
وتصل هذه الرسالة الي قمة صفائها وشاعريتها عندما يخطاب الشيخ محمد عبده صديقه ويناجيه مؤكدا له أنه صابر علي محنته، وأنه يعاهد نفسه، ويعاهد الله والناس علي أن يبقي صديقا للحق والحقيقة، وألا يتنازل عن كرامته وشرفه أويبيع ضميره لاحد مهما يكن الثمن، وأنه لن يشعر بالاسف علي أية خسائر تلحق به.
ثم ينهي الشيخ رسالته بدعاء ودعوة يخاطب فيهما صاحبه فيقول له: »لاتجزع، فليس في الامر مايفزع، وهوأهون ممايتوهمون وأسال الله أن يغض عنكم أبصار الظالمين، ويحفظكم من لؤم الخائنين، ويسر قلبي بالطمأنينة عليكم، وعلي سائر الاخوان الابناء أجمعين«
إن رسالة الشيخ محمد عبده فيها صورة حية للرجولة عندما يكون صاحبها في محنة فاحتمال المحنة والصبر عليها هوانتصار يفوق أي انتصار آخر، المهم ألا تتعرض النفس الكريمة لا نكسار وانهيار، وأن يبقي صاحبها واقفا علي قدميه حتي لو كان وحيدا بلا أعوان وأنصار، كما كان الحال مع الشيخ محمد عندما كتب هذه الرسالة في سجنه في ٠٢ نوفمبر سنة ٢٨٨١ إن رسالة الشيخ تبدو لنا كأنها قصيدة.. بل أجمل.