سيرغي رحمانينوف هو احد اساطين الموسيقى الكلاسيكية الروسية وعازف البيانو وقائد الاوركسترا البارع وتلميذ بيوتر تشايكوفسكي. ورحمانينوف يعتبر واحدا من الموسيقيين الروس البارزين الذين ساهموا كثيرا في نهضة الموسيقى الكنسية الارثوذكسية الروسية.
ولد سيرغي رحمانينوف في 20 مارس/آذار عام 1873 في عزبة سيميونوفو بمحافظة نوفغورود الروسية في عائلة نبيل. وتفيد المعلومات التي تم نشرها عام 1895 بان عشيرة رحمانينوف تنحدر الى سلالة دراغوش من حكام مولدوفا، التي حكمت البلاد خلال 200 سنة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. ويقول البعض ان عشيرة رحمانينوف تعود الى النبيل رحمان المولدافي، الذي ينحدر اليه ايضا إيفان فيودوروفيتش رحمانينوف، مترجم فولتير الاول الى اللغة الروسية والمهندس إيفان ايفانوفيتش رحمانينوف البروفسور في جامعة كييف.
وكان ابواه من هواة الموسيقى. فتلقى الصبي سيرغي أول درس في الموسيقى والعزف على البيانو على يدي والدته في سن مبكرة. وحين بلغ الصبي التاسعة من عمره التحق بقسم البيانو في كونسرفتوار بطرسبورغ. ثم تابع دراسته عام 1888 في كونسرفتوار موسكو.
امضي رحمانينوف ايام الصبا في المدرسة الموسيقية الخاصة بموسكو التي درس فيها ايضا المؤلف الموسيقي المعروف ألكسندر سكريابين. واتاحت المدرسة له فرصة التعرف عام 1886 على المؤلف الموسيقي الروسي الكبير بيوتر تشايكوفسكي، الذي شارك فيما بعد بتحديد مصير المؤلف الموسيقي الشاب.
تخرج الشاب سيرغي رحمانينوف صاحب موهوبة السمع الموسيقي الشاذ والذاكرة الفريدة من كونسرفتوار موسكو في قسم البيانو، وهو في الثامنة عشرة من عمره. وحين أكمل دراسته بالكونسرفتوار في قسم التأليف عام 1891 تم تكريمه بالميدالية الذهبية الكبيرة التي تمنح فقط للطلبة الذين يبرزون موهبة فائقة اثناء الدراسة. وقدم سيرغي رحمانينوف في امتحان التخرج
أوبرا "آليكو" المؤلفة على اساس قصيدة الكسندر بوشكين الرومانسية. وكان سيرغي رحمانينوف يتعلم في الكونسرفتوار على يد تانييف احد التلامذة المحبوبين لبيوتر تشايكوفسكي . فوصل تشايكوفسكي الى كونسرفتوار موسكو لحضور الامتحان، حيث اشاد بنوعية الاوبرا وموهبة رحمانينوف.. فتم عرض اوبرا المؤلف الموسيقي الشاب عام 1892 في مسرح البولشوي.
كان سيرغي رحمانينوف يقدر عاليا مؤلف "ملكة البسطوني" فتحمس بتأييده وابدع بضعة مؤلفات موسيقية، بما فيها كونشرتو البيانو الاول وبضعة اغنيات رومانية رائعة مؤلفة على اساس أشعار الكسندر بوشكين وفيودور تيوتشيف ومقدمة مقام دو دييز والرثاء الموسيقي المكرس لمعلمه تشايكوفسكي الذي توفي عام 1893 .
لكن مسيرته الابداعية لم تكن دوما مفروشة بالورود. وفي عام 1893 ألف سيرغي رحمانينوف سيمفونيته الاولى التي لم يفهمها الجمهور الموسيقي في بطرسبورغ. ففقد سيرغي رحمانينوف الثقة بموهبته وتوقف عن الابداع لبضعة سنين. وصادف فشله الابداعي الفشل فى الزواج، حين لم توافق الكنيسة الارثوذكسية الروسية على زواجه من إبنة خاله ناتاليا ساتينا، فاصيب سيرغي رحمانينوف باكتئاب حاد واضطر الى العلاج لدى طبيب الامراض النفسية ثم غادر بطرسبورغ متوجها الى عزبة ايفاتوفكا التابعة لاهل عروسه في محافظة تامبوف، ليمضي هناك اوقاته السعيدة. ولم يعد رحمانينوف الى تأليف الموسيى الا عام 1900 حين حصل أخيرا على السماح بالزواج من ناتاليا ساتينا التي رافقت راحمانينوف طوال حياته في روسيا وخارجها. ومنح رحمانينوف الاذن بالزواج الامبراطور نيقولاي الثاني الذي كتب على الطلب الموجه اليه: " لا يمكن إلغاء ما كتب عليهما". فألف رحمانينوف الجزئين الاول والثاني لكونشرو البيانو الذي انجزه عام 1901
والذي اعاد تقديمه الناجح في بطرسبورغ ثقته بامكاناته الابداعية. ويعد الكونشرتو للبيانو المؤلف عام 1901 من أكثر مؤلفات رحمانينوف شهرة. ويمكن ان يسمع المرء فيه رنين الناقوس الذي اعتاد المؤلف الموسيقي ان يدخله في مؤلفاته الى جانب العزم الشديد على المضي قدما. اما الكونشرتو الثالث للبيانو الذي ألفه الموسيقي بعد فترة فيتصف بانغام غنائية وحماسة الايقاع وتلقائية الشكل الخاضعة للمضمون. يدشن الكونشرتو الثاني المرحلة المثمرة في ابداع راحمانينوف، حيث ابدع السيمفونية الثانية والقصيدة السيمفونية" جزيرة الموتى" والقصيدة السيمفونية "الاجراس" واوبرا" الفارس البخيل" المؤلفة على اساس قصة بوشكين. اوبرا "فرانشيسكا دا ريميني" المؤلفة على اساس إبداع أليغييري دانتي ومقطوعة "صلاة المساء" للغناء الجماعي".
لا يعرف الا قليل من الناس ان سيرغي رحمانينوف لعب دورا لا يستهان به في نهضة الموسيقى الدينية الارثوذكسية الروسية. وكان الكثير من الفنانين الروس، بمن فيهم الشاعر ألكسندر بلوك يهتمون في مطلع القرن العشرين بالتراث الروسي للقرون الوسطى وخاصة بالايقونات والفن المعماري الكنسي . وابدع سيرغي رحمانينوف الى جانب "صلاة المساء" المذكورة ا علاه سلسلة من المؤلفات الموسيقية الدينية التي اطلق عليها عنوان "ليتورجية يوحنى فم الذهب". حيث لم يستعن عمليا بالغناء الكنسي الواقعي - كما هو الامر في "صلاة المساء" - بل جمع بين الفنين الشعبي والمحترف ليشكل صورة موحية لغناء الطقوس الشعبية العريقة. وكان سيرغي رحمانينوف يسعى في ابداعه الى ان يعكس العلاقة بين الماضي والحاضر على خلفية حياة روسيا الدينية. لذا فانه كثيرا ما كان
يستعين بمقطوعات الغناء الجماعي، كما هو الامر في كانتاتي "الاجراس و" الربيع".
تجدر الاشارة الى تاريخ تأليف رحمانينوف لاغنياته الرومانسية. حيث بدأت هذه القصة من مراسلة ربطته بفتاة لم تكن تذكر اسمها في
رسائلها الموجهة الى رحمانينوف، بل وصفت نفسها بانها النوتة "ري". وهذه الفتاة هي الكاتبة مارييتا شاغينيان التي كانت توحي الى سيرغي رحمانينوف ليؤلف اغنيات رومانسية على اساس قصائد الشعراء الروس الكبار. هكذا ظهرت الاغنيات الرومانسية : "الليلق" و " اقحوان"و "هنا جو طيف " التي لا تزال تصدح حتى ايامنا هذه في شتى الحفلات الموسيقية.
حظي رحمانينوف بشهرة المؤلف الموسيقي وعازف البيانو على حد سواء. وذاع صيته خارج روسيا، حيث كان دوما يقوم برحلات ويقدم عروضا موسيقية. واتصفت طريقة عزفه بغنائية لا مثيل لها. ووصفه النقاد وعشاق الموسيقي بانه اعظم عازف على البيانو في القرن العشرين.
وبالاضافة الى ذلك اشتهر سيرغي رحمانينوف بكونه قائدا للاوركسترا في مسرح الاوبرا والفرقة الموسيقية السيمفونية. وكان يقدم دائما تفسيرا خاصا به للمؤلفات الكلاسيكية الكثيرة.
وبدأ رحمانينوف يعمل منذ عام 1897 قائدا ثانيا في اوبرا مامونتوف الروسية الخاصة حيث اكتسب خبرة كافية بكونه قائدا للاوركسترا، وتعرف بفنانين روس كبار مثل الرسامين فالنتين سيروف وقسطنطين كوروفين وميخائيل فروبيل ومغني الاوبرا الروسي الشهير فيودور شاليابين الذي ربطته به منذ ذلك الحين عرى صداقة متينة.
قدم سيرغي رحمانينوف يوم 3 سبتمبر/ايلول عام 1904 عرضه الاول باعتباره قائدا لاوركسترا الاوبرا في مسرح البولشوي الذي سيكون قد اخرج فيه مسرحية "ايفان سوسانين" من تلحين ميخائيل غلينكا و"ملكة البسطوني" من تلحين تشايكوفسكي.
يلعب البيانو مكانة خاصة في ابداع رحمانينوف. وابدع أحسن مؤلفاته لآلته الموسيقية المحبوبة. وبينها 24 مقدمة موسيقية و15 لمحة موسيقية 4 كونشرتو للبيانو و"رابسودية في موضوع باغانيني" للبيانو مع الاوركسترا.
طيف المشاعر التي يقدم الموسيقي في تلك المؤلفات واسع جدا ابتداءا من السكون وانتهاءا بالحماس الشديد. وابتداءا من الفرح الفاتح وانتهاءا بالحزن الكئيب. ويتبع رحمانينوف عند ذلك تقاليد الموسيقى الكلاسيكية الروسية، وبالدرجة الاولي بيوتر تشايكوفسكي والخمسة الكبار. وتشبعت موسيقاه ثراء الينابيع الغنائية الشعبية الروسية وبعض عناصر الغناء الكنسي الارثوذكسي الروسي. وتجلى ذلك بشكل خاص في سيمفونية رحمانينوف الثانية التي ألفها عام 1907 والكانتاتا "الربيع" والقصيدة الموسيقية "الجرس".
لم يقبل سيرغي رحمانينوف بالنظام البلشفي وغادر روسيا الى امريكا. ولكنه كان يتابع ببالغ الاهتمام ما يشهد وطنه من انجازات في مجال الثقافة. لم يؤثر المهجر إيجابا على رحمانينوف، فتوقف عن تأليف الموسيقى ولم يعد اليه، الا عام 1926 حين بدأ يؤلف الاغنيات الروسية . ويتضمن نتاجه الابداعي في المهجر "رابسودية في موضوع باغانيني" للبيانو مع الاوركسترا و3 سيمفونيات و"الرقصات السمفونية". وتعد سيمفونيته الثالثة من اروع مؤلفاته التي ابدعها في نهاية حياته عام 1936 والتي تخترقها الروح المأسوية العميقة وحب الوطن. كان رحمانينوف وظل لغاية موته موسيقيا روسيا من رأسه حتى قدميه.
واشترى رحمانينوف وزوجته ناتاليا في عام 1930 فيللا في سويسرا أطلقا عليها تسمية "سينار" نسبة الى اسمي سيرغي وناتاليا ولقب رحمانينوف. فحاول رحمانينوف ان يستعيد فيها جو عزبة "ايفانوفكا" في محافظة تامبوف التي كان يزورها كثيرا والتي استوحى من جوها مؤلفاته الكثيرة. لكن هذا المشروع باء بالفشل.
وقدم رحمانينوف في سنوات الحرب العالمية الثانية بضعة حفلات موسيقية خيرية لصالح الجيش السوفيتي الذي كان يحارب الالمان. وكتب المؤلف الموسيقي في احدى رسائله: "انني على ثقة باننا سنتغلب على النازيين". يبدو ان هذا الامر أثر على موقف الحكومة السوفيتية منه.
توفي سيرغي رحمانينوف في 28 مارس/آذار 1943 في الولايات المتحدة الامريكية مصابا بمرض السرطان. لكن موسيقاه بقيت معنا. وليس في دفاتر النوتة فقط، بل في اسطوانات الغرام التي حافظت على طريقة عزف رحمانينوف الفريدة من نوعها.
كما تقام مسابقة رحمانينوف لعازفي البيانو في كل من لوس انجلوس الامريكية وفيليكي نوفغورود الروسية الى جانب المهرجان الموسيقي باسم رحمانينوف الذي يقام في مدينة تامبوف الروسية. ونصب في كل من فيليكي نوفغورود وتامبوف تمثال رحمانينوف .