أريد أن آخذ بيدك لنخرج ساحة الحديث عن جريمة السودان، وأحكى لك قصة تلك السيدة– سيدة مصر الأولى بالنسبة لى- التى كتبت عنها منذ عام تقريبا، وعن قصة ابنها الذى راح ضحية تعذيب رجل شرطة غشيم لا يختلف كثيرا عن بلطجية الجزائر الذين ضربوا مشجعينا فى السودان والجزائر، أحب هذه المرأة كثيرا لأنها نموذج حى للصبر ونموذج رائع للقوة، منذ يومين حاولت الوصول إليها لمعرفة تفاصيل قضية ابنها، فجاء صوتها فى الهاتف ضعيفا وواهنا ويائسا، فأدركت على الفور أنها تسقط، وكيف لمن مثلها يعانى الفقر والمرض والقهر أن يقوى على استكمال طريق المحاكم وأقسام الشرطة، حاولت أن استخدم أضعف الإيمان لنصرتها، وجلست لأكتب، فوجدتنى مثلها تماما ضعيفا ويائسا، فلم أجد مفرا من استدعاء ما كتبته عنها لعلكم تتذكرونها بالدعاء..
لم أجد غير الدهشة لكى أحتضنها وأنا أقرأ عن تلك السيدة التى وقفت أمام مكتب المحامى العام للمنصورة بنفس الشكل الذى كانت عليه منذ حوالى عامين دفاعا عن حق ابنها الذى راح ضحية لضباط سلخانة قسم شرطة المنصورة، دهشتى لم يكن سببها إصرار المرأة أو «طول بالها»، لأننى أعلم يقينا تصميمها على الانتقام من الذين قتلوا ابنها حتى ولو كانت على أكتافهم كل نسور الداخلية ودبابيرها.
مازالت تحمل وجعها فى قلبها، وتسير من المستشفى إلى دارها، ومن دارها الصغيرة المتواضعة إلى مكتب المحامى العام بالمنصورة تفترش أرضه بجلبابها الفلاحى المعتاد وتضم إلى صدرها كيسا بلاستيكيا به أوراق.. هذا تقرير طبى يضم مالا يحصى ولا يعد من خروم وجروح وحرائق وكدمات فى جسد ولدها، وهذه ورقة أخرى تحمل شهادة حق من أطباء ضميرهم مازال يقوى على النبض تؤكد وقوع أبشع عملية تعذيب لطفلها، وأوراق أخرى لبلاغات ووعود بمعاقبة الضابط المسئول عن تلك الواقعة لم يتم تنفيذ كلمة واحدة منها حتى «الرحمة» التى تعلو سطور كل جواب ضمن البداية المعتادة لأى خطاب مصرى «بسم الله الرحمن الرحيم» لم يلتفت إليها أحد، ربما لأن المسئول وأصحابه من رجال الشرطة الذين تلقوا شكوى الأم لم يقرأوا ما أرسل إليهم، أو ربما لأن قلوبهم أصبحت فظة وغليظة بالقدر الذى لا يسمح لها بأن ترق وهى تقرأ مأساة أو تخاف وهى تقرأ اسم الله وصفته الرحيمة، وما بين أوراق الشكوى وأوراق التوسل تبقى ورقة وحيدة لا تغادر صدر الأم الحزينة أبدا، شهادة وفاة ابنها محمد ممدوح «قتيل شها».. هل تذكرونه؟ من المؤكد أن الطفل القتيل ومأساته ذهبا إلى أبعد مكان فى ذاكرة المصريين، جفف كل منا دموعه ورتب حدوتة «محمد» ترتيبا تصاعديا وفقا للجروح والخروم والكدمات الموجودة من إصبع قدمه حتى شعر رأسه وطوى صفحته وركنها فى سلة مهملاته الإنسانية.. ونسى أو ربما تناسى، إلا تلك المرأة التى تساوى مائة رجل مازالت لم تنس، مازالت تجرى هنا وهناك وتسعى لاستعادة حق ابنها الذى عذبه ضابط فى مركز المنصورة وألقى به فى موقف سيارات وجسده ينزف آخر ما تبقى له من روح.
ومابين الأم التى تسعى لاستخراج عظام ابنها والصلاة عليها وعقاب من أدمى قلبها عليه، وأم أخرى تسعى أيضا وبقوة لأن تستخرج شهادة شهادة بعنوان صالح لرئاسة الجمهورية لتضع بها ابنها فوق رؤوس الناس، تبقى لعبة المتناقضات تزغزغ فى تاريخ مصر ومشاعر مواطنيها، بين والدة «قتيل شها» التى تظهر صورتها بائسة ومرهقة ولم تأكل منذ أيام ولا يساندها أحد، وبين والدة الشاب الأول فى مصر ورفيقاتها اللاتى تظهر صورهن فى صدر الصفحات الأولى مبتسمات محتفلات بأعياد الطفولة ومتحدثات عن حقوق المرأة والطفل.. ما بين هذه الأم التى تريد حقها وتلك الأم التى تريد أن تسلب المصريين حقهم فى الاختيار تبقى الصورة الأسوأ لذلك الوطن والصورة الأضعف لنا نحن من يعيش فينا ذلك الوطن.. وقال إيه نحن نعيش فيه أيضا.