شاهدت مباراة مصر والجزائر التى أقيمت فى القاهرة مساء الأحد 14 نوفمبر ثم طرت مباشرة إلى مدينة الأقصر لحضور مهرجان طيبة الثقافى الدولى، ثم شاهدت مباراتهما الثانية التى أقيمت بالسودان، وطرت بعدها مباشرة من الأقصر إلى القاهرة، لذلك كان حديث المباراة موازيًّا للحديث عن التراث الشعبى فى جنوب مصر، ومواكبًا لقصائد الشعر التى ألقيت فى ساحة سيدى أبو الحجاج خلف معبد الأقصر. أقول موازيًا ومواكبًا حتى لا أقول طاغيًا!
كنا مازلنا فى الطائرة حين زفَّ إلينا أحدنا خبر اعتداء الجمهور الجزائرى على جمهور مصر فى السودان بعد انتهاء المباراة لصالح الجزائر، وبالتالى تأهل الجزائريون للمونديال فى جنوب أفريقيا 2010، مونديال الصفر الشهير. الحقيقة أننى استغربت وأرجعت الأمر كله إلى الدعاية المضادة، فالبعض يلجأ فى حالات الهزيمة ـ أيًّا كان مجالها ـ إلى صرف الانتباه إلى أمور أخرى، حتى لو كانت تؤجج النار وتشعل نار الحقد وتؤدى إلى كوارث مستقبلية. وما زاد الأمر عندى أن إذاعة الشباب والرياضة، فى طريقى من المطار إلى البيت قرب الساعة الثانية فجرًا، كانت مازالت تتحدث عن الخناقات والمطاوى والسنج.. إلخ.
تواتر الأحداث بعد ذلك جعلنى بالفعل أندهش: خناقات وهتافات ومحاولات اقتحام سفارات وسحب سفراء واستدعاء آخرين وتصريحات نارية من مسئولين وأوصاف غريبة وعجيبة وأمن وحصار.. الخ، وكأننا فى معركة حربية، أو أكثر والله. هذا الشعب الطيب لا يتحرك بهذه الفعالية لمواجهة الاعتداء على رزقه، ولا على كرامته، فلماذا يفعل ذلك لمجرد أن فريقه الكروى انهزم فى مباراة؟ رغم أن الهزيمة واردة، وألف باء المنافسات تقول إنك لا تستطيع أن تنتصر طول الوقت، وأن الهزيمة لا تعنى أنك الأسوأ، فربما تدخلت أمور أخرى: داخلية أو خارجية أو نفسية.. الخ. والأهم: ما الذى كان سيحدث إن فزنا بالمباراة وذهبنا إلى كأس العالم فى جنوب أفريقيا؟ والأهم من المهم: لماذا لا نلوم أنفسنا لأننا ضيعنا فرصة ثمينة من البداية حين تعادلنا على أرضنا مع فريق مغمور، ثم انهزمنا بثلاثية من فريق الجزائر؟
ما يلفت النظر فى هذه "الخناقة" أن بعض المثقفين ضالعين فيها، سمعت أحدهم ممن أثق فى ثقافته وحسن تقديره للأمور وقراءته للتاريخ يقول إن الجزائريين بربر، وهو بالضبط ما يعادل قول علاء مبارك ـ لأحد البرنامج الرياضية ـ إنهم مرتزقة، والغريب أن تعليقه هذا حينما نشر بالفيديو على اليوم السابع وجد تجاوبًا كبيرًا تمثل فى تعليقات كثيرة أشادت به وبالرئيس حسنى مبارك.. والده!
أنا الآن أتذكر أن مصر جمال عبد الناصر وقفت بجوار الجزائر فى نضالها ضد الفرنسيين الذين كانوا يعتبرونها مستعمرة فرنسية، وساندتها فى ثورتها التى تعد واحدة من أعظم الثورات فى العصر الحديث، ودفعت ـ مصر ـ ثمن موقفها أن اشتركت فرنسا مع إنجلترا وإسرائيل فى العدوان الثلاثى عليها عام 1956. وأتذكر ـ كذلك ـ الرئيس الجزائرى الأسبق هوارى بو مدين حين اجتمع بالقادة السوفييت عقب هزيمة الجيش المصرى عام 1967، وقتها عنَّف بو مدين الروس، ولامهم لأنهم تأخروا فى إمداد جيشنا بالمعدات التى يحتاجها، وسألهم: أتريدون أموالاً؟ وألقى أمامهم دفتر الشيكات وانخرط فى نوبة بكاء هستيرى!
كما أتذكر أصدقائنا من الشعراء والكتاب الجزائريين وكيف يحبون مصر أكثر مما نحبها نحن، وكيف يؤيدون مواقفنا فى المحافل الثقافية دون تردد، بدءًا بالروائى الكبير بنسالم حميش وزير الثقافة الجزائرى الذى فاز بجائزة "نجيب محفوظ للكاتب العربى" هذا العام وتسلم الجائزة من محمد سلماوى رئيس اتحاد الكتاب فى احتفالية القدس التى أقيمت بمقر الاتحاد بالقلعة فى شهر رمضان الماضى، مرورًا بوزير الإعلام، رئيس اتحاد الكتاب الجزائريين السابق، الشاعر عز الدين ميهوبى، وليس انتهاء بالرئيس الحالى لاتحاد كتابهم الشاعر يوسف شقرة، والعديد من المثقفين والنقاد الجزائريين الذين يجاهرون بفضل مصر على ثورتهم.
هذه الحرب الأهلية لمصلحة من؟ ولماذا يتورط فيها المثقفون والإعلاميون؟ أليس بيننا عاقل ينبهنا إلى أننا كنا نلعب مباراة فى كرة القدم؟ وأن عدونا هو من يحتل أرضنا العربية ويغير خريطة القدس ذاتها كل يوم، لا الذى يهزمنا بهدف دون مقابل فى لعبة غايتها الترفيه والمنافسة الشريفة واحترام المنافس.. لا الخصم!