كان الأمر بيدى لأعلنت حدادا قوميا عاما على قوى وأحزاب المعارضة المصرية وطالبت الجماهير بأن ترتدى شارات سوداء لدى خروجها إلى الشارع وترفع رايات سوداء على شرفات المنازل حزنا وكمدا وبكاء على الحالة المسخ الرديئة التى وصلت إليها قوى سياسية وحزبية كبرى كنا نظنها بديلا محتملا للحزب الوطنى الحاكم عند الضرورة، ونحسبها تبنى حركتها على قواعد استراتيجية أصيلة، وتمضى بحكمة واتزان لتكون جاهزة لتداول السلطة فى لحظة تغيير قادمة لا محالة، إن عاجلا أو آجلا، لكن الانجراف الأبله الذى هرولت به بعض هذه الأحزاب إلى موسم الترشيحات الإعلامية والصحفية الساخنة لأسماء وهمية ومنافسين لم يطرحوا أنفسهم أصلا فى سباق الرئاسة المرتقب برهن على أن قيادات المعارضة فى بلادنا تنفخ الصفافير فى المولد، وتصفق للأراجوز، وتنخدع بالتلات ورقات، وتركب الهوا.. مداااااد.
هذه الأحزاب العتيقة وتلك القوى الراسخة فى المعارضة تركت نفسها نهبا لتقارير إعلامية تطرح أسماء خيالية لحكم مصر، هذه التيارات الكبرى انخدعت مثل تلاميذ المدارس السذج حين يتحلقون حول الحاوى على جسر القرية ويتقافزون فى الهواء ولعا بالحركات البهلوانية ويمدون أيديهم بمنتهى البلاهة إلى جيوبهم الصغيرة ويخرجون مصروف المدرسة ويضعونه فى الطبلة التى يجمع فيها الحاوى ثمن ذكائه فى استثمار هذا العته السياسى الكاتم على صدورنا وأنفاسنا أينما يممنا وجوهنا فى هذا البلد.
هكذا بقدرة قادر صارت الأحزاب المصرية الكبرى والصغرى فى موقع (المفعول به) وهرولت وراء سيارات الرش التى قادتها الميديا الصحفية والتليفزيونية لتحرك بها الركود الإخبارى العام فى مصر وقدمت أسماء مرشحين محتملين للرئاسة بينهم أحمد زويل ومحمد البرادعى وعمرو موسى وآخرون فى قائمة شخصيات (لطيفة وخفيفة الظل) وجعلت منها حدثا وكأن تلك الشخصيات تحركت بالفعل لترتيب أوراق الترشيح لهذا المنصب الكبير، وبدأت فى تحريك الجماهير لمناصرتها فى الاقتراع المقبل، واستمتعت المعارضة المصرية بالماء الذى تصبه سيارات الرش فى هذا الجو الحار الساخن ودخلت إلى سباق التخمينات وأعلن بعضها عن تبنيه لهذه الشخصيات (الظريفة) لقيادة مصر فى المرحلة المقبلة، والمنافسة على مقعد الرئاسة فى 2011.. يا سلام!
هكذا بكل بساطة سلمت المعارضة المصرية أنه لا يوجد بين صفوفها وجه واحد يصلح لرئاسة الجمهورية بعد كل سنوات العمل والكفاح والصخب والملاحقات الأمنية والصراع ضد كل أجهزة الدولة، وهكذا بكل بساطة تقزمت قيادات المعارضة فى مصر وجعلت من المواطن المصرى الأمريكى الدكتور أحمد زويل، أو المواطن المصرى العالمى الدكتور محمد البرادعى، قيادات صالحة للرئاسة، أفضل من خالد محيى الدين ورفعت السعيد ومحمود أباظة وأسامة الغزالى حرب ومنير فخرى عبد النور وغيرهم من القيادات السياسية التى تمتلئ صدورها بتراب السياسة من الإسكندرية إلى أسوان.
الإعلام قاد سيارة رش لتهرول من ورائه الساحة السياسية، وبدت بورصة الترشيحات الوهمية كأنها مزايدة على التقدير العام لشخصيات كبرى نحبها ونحترمها لما أنجزته على الصعيد العربى أو الدولى أو العلمى، لكنها لم تتقدم أصلا لتنال شرف القيادة السياسية فى مصر، ولم تفكر فى العمل بالخدمة العامة، ثم فوجئنا بأن الأحزاب تتسابق على إعلان انضمام هذه الشخصيات العامة لصفوفها، وفوجئنا بقيادات حزبية تعلن نيتها للانسحاب من الترشيح لصالح أى من هذه الأسماء، هكذا بكل بساطة وسلاسة وعته أيضا أصبحت المنافسة على انتخابات الرئاسة هى بالوجوه الجميلة والشخصيات الطيبة الحلوة اللطيفة، وليس بالبرامج والأفكار والمشروعات السياسية ورؤى التغيير واستراتيجيات التقدم، هكذا صارت الرئاسة (مسألة استلطاف شخصى) لا خطط عمل واستعدادا للخدمة ونضالا من أجل التغيير والحركة .
ولو أن الأمر قائم على الاستلطاف فلماذا لا نرشح عمرو أديب ليكون أول مذيع رئيسا للجمهورية، على الأقل يفهم الرجل فى السياسة ويمتلك رؤية نقدية هائلة وكاريزما يستطيع من خلالها تحريك الحكومة إلى الأمام حال وصوله إلى مقعد الحكم.
ولماذا لا نرشح أحمد السقا فهو نجم ومحبوب ومستعد للخدمة العامة فى البلد، وبالمرة يكون هو أول سينمائى مرشحا لرئاسة الجمهورية، فهناك من يحبون هذا النوع من الألقاب على الطريقة الأمريكية.
يمكن أيضا اعتماد الطريقة البولندية تقديرا لتاريخ القيادى العمالى (ليخ فاونسا) الذى أصبح رئيسا للجمهورية فى بولندا فيما بعد، ونفكر فى ترشيح قيادة عمالية واعدة لنؤكد أن منصب رئيس الجمهورية مسألة عادية وأى مواطن يمكنه الترشح لذلك، فنرشح مثلا كمسرى أوتوبيسات من المواطنين المطحونين لنؤكد عدالة الترشيح، ونرفع مواطنا من العامة لحكم جمهورية مصر العربية، فينحاز للفقراء ويصلح أحوال الأوتوبيسات العامة ويشعر بهموم الناس على محطات الأوتوبيس.
للأسف نحن ابتذلنا المنصب، وابتذلنا منطق الترشيح، وابتذلنا طريقة التفكير فى التغيير والإصلاح إلى الحد الذى صارت فيه العملية بكاملها نكتة إباحية، أو سيارة رش يجرى وراءها الجميع، الميديا على مقعد القيادة وكل الكوادر السياسية والقيادات الحزبية ورموز المعارضة فى الخلف (غرقانين بعبط فى المياه والطين).
أظن أن هذا المشهد الذى عاشته مصر وتورطت فيه القوى السياسية خلال الأسبوعين الماضيين يحتاج إلى تفسير وتحليل لأسبابه ونتائجه، فكيف انجرفت المعارضة إلى هذا السفه؟ ولماذا اشتعلت البورصة لتضم أشخاصا لا يرغبون أصلا فى الترشيح؟ ولماذا سلم قيادات الأحزاب فى بلاهة لهذا النهج فى يأس كامل وسذاجة مفرطة؟
إن كنا نتحدث عن إصلاح حقيقى وتغيير فاعل فى مصر فإننا يجب أن نعمل فيها على مسارين، الدولة وأجهزتها وحزبها الحاكم من جهة، والمعارضة وقياداتها وأفكارها ورؤيتها وجدارتها للعمل والمنافسة من جهة أخرى، فلا يصح أن نرد على التغييرات الدستورية التى فتحت باب الترشيح والتنافس بأن نبتذل المنصب ونبتذل المنافسة إلى هذا الحد الذى نطرح فيه أى اسم فى أى وقت بدون رؤية أو أجندة أو برنامج.
ولا يصح من الأساس أن نطالب بالتغيير لنستبدل شخصا مكان شخص، هكذا بكل استسهال وسطحية، بل ولا يصح أيضا أن يكون التنافس هنا مرتبطا بأشخاص (نستلطفهم اجتماعيا) فى حين لم نسمع منهم كلمة فى الشأن الداخلى، أو فكرة فى التطوير والتنمية الوطنية ولم نرهم فى ساحة الفداء أو العمل العام يوما من الأيام فى خدمة مصر.
أنا أفهم طبعا أن هناك قيادات صحفية وإعلامية استبد بها اليأس من الحكومة والمعارضة معا، ومن الدولة وخصومها على حد سواء، لكن هذا لا يعنى أبدا أن نصل إلى مرحلة نهين فيها أنفسنا ونهين فيها حلمنا فى الإصلاح والتغيير إلى الحد الذى ننتظر فيه أى وجه جديد بأى طريقة وبأى ثمن ليكون حاكما لنا ولبلادنا العظيمة هكذا بلا ثمن، وهكذا بلا رؤية، وبلا خطة، وبلا برنامج.
إن كنا نحترم أنفسنا حقا، ونحترم رغبتنا فى الإصلاح فإن هذه المهزلة يجب أن تتوقف، وسيارات الرش يجب أن تدخل إلى الجراج، والسياسيون المحترمون يجب أن ينسحبوا من ميدان التلات ورقات، فالمنافسة المقبلة على مقعد الرئاسة يجب أن تكون جادة وراقية وعلى أسس من الأفكار والبرامج، لا من الاستظراف والاستلطاف، أو العته والسذاجة، نريد منافسة تحترمها مصر، وينتفع منها البلد فكرا وروحا ورؤية للمستقبل، نريد منافسة يحترمنا فيها العالم، ويحترم فيها الفائز بكرسى الرئاسة خصومه على هذا المنصب المرموق، لا أن ينظر إليهم كبهلوانات ساهموا فى تسلية البلد، فيكون قراره الأول للحكومة أن تملأ لهم عربات الرش من جديد ليستمتع مرة أخرى بالمشاهدة.
مصر أكبر من كده.. عيب!