أسأل الله العلى القدير أن ينزل السكينة على قلب كل أب وأم فى مصر، إذا شاء له القدر أن يسمع هذا الخبر شديد القسوة، هائل البطش، بأن فيروس الأنفلونزا ضرب بعمق جسد أحد أبنائه فى مفاجأة غير متوقعة، وبلا إنذار مسبق، ورغم كل الاحتياطات الصحية والوقائية فى البيت وفى المدرسة.
أسأل الله أن يعافيك من هذه الصدمة، ولا يكتب لك غلظة هذا الحدث، أدعو لك الآن وقد تذوقت بنفسى مرارة هذا النبأ الأسبوع الماضى، بعد إصابة ابنتى فيروز، 11 عاما، بمرض (H1N1) المعروف باسم أنفلونزا الخنازير، أسأل الله لك العافية ليس فقط من المرض، بل مما يليه من صدمات أخرى، تؤكد لك بما لا يدع مجالا للشك أننا لسنا مستعدين بعد للجائحة الكبرى التى بشر بها وزير الصحة الدكتور حاتم الجبلى، بل لسنا قادرين على المواجهة الصحية فى المستشفيات العامة أو الخاصة، وليس لدينا ما يؤهلنا لحماية أنفسنا وأبنائنا إذا وقعت الواقعة.
هذه الحكاية تستحق أن أرويها، إذ إننى دخلت وللمرة الأولى فى عين العاصفة مباشرة، لأعرف ما لم يكن باستطاعتى الاطلاع عليه من موقعى الصحفى فقط، الآن أروى لك قصتى مع أنفلونزا الخنازير، لتكتشف كم نحن حفاة وعراة فى وجه كل مصائب الدنيا، وكم نحن ضعفاء شعبا وحكومة، بلا وعى، وبلا استعدادات طبية، وبلا حقيقة واحدة يطمئن لها قلبك، أو معلومة تعتمد عليها لإنقاذ أسرتك.
العاصفة ليست فى الأنفلونزا، بل فى كل هذه الفوضى الإدارية والطبية التى نعيشها فى مواجهة هذا الفيروس، والمأساة ليست فى المرض، الذى هو قدر الله، نقبل بخيره وشره، لكنها فى القرارات المتخبطة التى لا تستند إلى علم أو تتكئ على حقيقة.
المأساة الأولى.. المعمل الخاص
كانت درجة حرارة فيروز ترتفع تدريجياً مساء السبت قبل الماضى، فيما الهلع من أنفلونزا الخنازير يدفع زوجتى إلى الهرولة نحو أحد المعامل الخاصة، لإنجاز تحليل الفيروس أملاً فى أن تكون هذه الحرارة ناتجة عن أنفلونزا موسمية، وليس عن هذا الفيروس اللعين الذى قضى على ما يقرب من 90 شخصاً حتى كتابة هذه السطور، سارعنا إلى الاتصال بالمعمل الذى أرسل مندوبا للحصول على العينة، وهنا بدأ الارتباك، سألنا الشاب القادم من المعمل، ما إذا كنا نريد التحليل السريع وسعره 300 جنيه، أم تحليل (بى. سى. آر) الذى يحتاج إلى 24 ساعة وسعره 475 جنيهاً؟
لم نكن جاهزين للإجابة، فسارعت للاتصال بأحد الأطباء الذى أكد أن التحليل السريع مشكوك فى نتائجه، ولا يعبر عن الحقيقة، ونصح بأن نجرى التحليل الثانى وننتظر لمدة 24 ساعة، وعند حصولى على هذه الإجابة تساءلت: ما الذى يدفع المعامل الخاصة أن تطرح هذا السؤال ابتداء، وتقوم بعرض هذا الاختيار على أولياء الأمور، إن كان التحليل السريع لا يسمن ولا يغنى من جوع؟ ولماذا تسمح وزارة الصحة للمعامل الخاصة بإجراء هذا التحليل إن كانت نتيجته محل شك؟
دعك من هذا، ليس هذا هو الوقت المناسب للأسئلة، والبنت تحت قهر ارتفاع درجة الحرارة بلا توقف، هكذا قالت زوجتى، فاخترنا التحليل (بى. سى. آر) رغم أنفنا ونحن صاغرون، وتوكلنا على الله فى (الكمادات) وخوافض الحرارة انتظاراً لقدر الله تعالى.
فى اليوم التالى اتصل بنا المعمل لينقل لنا الخبر (النتيجة إيجابية) ابنتكم مصابة بأنفلونزا H1N1 ويمكنكم استلام النتيجة الآن!.. سأقفز هنا فوق حالة الفزع وهستيريا الحزن التى اجتاحت العائلة، وأنقلك مباشرة إلى تفاصيل التجربة لتعرف ما الذى يمكن أن تقاسيه كل عائلة فى مصر من جراء التردد والتخبط وسوء الإدارة، ولتعرف أيضاً من تجربتى كيف يمكن أن تواجه، لا قدر الله، مأزقا على هذا النحو.
فى المعمل سألت الموظف الذى سلمنى نتيجة التحليل، ما إذا كانت إدارة المعمل تطلع وزارة الصحة على النتيجة لاتخاذ ما يلزم تجاه المدرسة، أو إدراج هذه الحالة فى إحصاء الوزارة، أو التعامل مع العمارة التى نسكنها أو أى إجراءات أخرى، فكانت المفاجأة أن الإجابة (لا)! المعمل لا يقوم بأى دور فى إطلاع وزارة الصحة، ولا يعنيه من قريب أو بعيد أن يتم إدراج الحالة ضمن الإحصاءات اليومية، أو يقوم بإطلاع المدارس أو يبادر إلى أى فعل من أى نوع.
لم أستطع هنا أن ألوم الموظف أو ألوم المعمل، ولكننى فوجئت بنفسى وفى يدى تحليل يفيد بأن ابنتى مصابة بفيروس الأنفلونزا، دون أن أعرف على وجه التحديد ما هى الخطوة التالية، وكيف أحصل على التاميفلو، وما الذى يجب على المدرسة القيام به تجاه هذه الحالة الجديدة؟
المأساة الثانية.. التاميفلو
اتصلت بمدير أحد مستشفيات الحميات على هاتفه المحمول، وأطلعته على حالة ابنتى، فالحميات هى الجهة المعنية باستقبال هذه الحالات أو صرف التاميفلو على حد علمى حينها، وفوجئت بأن الرجل ينكر تحليل المعمل الخاص ابتداء، ولاحظ هنا أن هذه المعامل حصلت على تراخيص معتمدة من وزارة الصحة، وحين طلبت منه الحصول على التاميفلو وفقاً لهذا التحليل، قال إنه غير مختص بذلك، وأن الجهة الوحيدة التى تصرف الدواء فى إحدى إدارات وزارة الصحة.
حاولت الاتصال بهذه الإدارة دون جدوى، لا أحد يجيب على الهاتف وقد كانت الساعة بلغت التاسعة والنصف مساء، فقررت الاتصال بأحد المستشفيات الخاصة التى أعرف أنها مجهزة لاستقبال حالات الأنفلونزا فكانت الإجابة أنهم لا يقومون بصرف التاميفلو، وأنه ينبغى علينا الانتظار حتى الصباح لحين الاتصال بوزارة الصحة، كما أن الأطباء فى هذا المستشفى الخاص أخبرونى بأنهم لا يمكنهم استقبال إلا الحالات الحرجة.
هكذا صرت تائها، فلا مستشفى الحميات مستعد لقبول نتيجة تحليل المعمل الخاص، ولا هم مستعدون لإجراء التحليل بأنفسهم، والمستشفيات الخاصة لا تستقبل إلا الحالات الحرجة!!.
واعترف لك أننى لم أجد سبيلاً أمامى سوى اللجوء إلى الطريق الذى لم أكن أتصور أننى سأضطر إليه أبداً، فقد كنت أظن أننى كمواطن لست فى حاجة إلى استغلال علاقة خاصة للحصول على خدمة صحية من المفترض أنها من حقوقى الطبيعية، ومن المفترض أيضا أن الحكومة تستعد لها منذ عدة أشهر، فما كان أمامى إلا الاتصال مباشرة بالدكتور عبدالرحمن شاهين المستشار الإعلامى لوزارة الصحة، وأطلب منه مباشرة المساعدة فى هذا الموقف، فلا أنا أستطيع الانتظار حتى الصباح وأنا أعلم أن ابنتى مصابة بالفيروس، ولا أنا أستطيع نقلها إلى مستشفى خاص، ولا المستشفيات العامة المفترض بها تقديم الخدمة فى هذا الموقف جاهزة للاعتراف بنتائج المعمل الخاص!!.
تحدثت مباشرة إلى الدكتور عبدالرحمن الذى تكرم وأرسل عبوة من التاميفلو على منزلى مع سائقه الخاص، لتبدأ فيروز فى تناول الدواء قبل أن يستبد الفيروس بجسدها الصغير، لا قدر الله، ومع وصول العبوة كنت أشكر الدكتور عبدالرحمن من كل قلبى، لكننى فى الوقت نفسه كنت أتحسر على حالنا من كل قلبى أيضاً، فما الذى يمكن أن يفعله أب آخر ليس لديه رقم الهاتف الخاص بمستشار وزارة الصحة؟ وما الذى يمكن أن تفعله عائلة أخرى إذا هرولت نحو مستشفى خاص، ورفض استقبال الحالة، أو سارعت إلى مستشفى عام للحميات وشكك فى نتيجة المعمل الخاص؟ كل هذا تحت ضغط من الفزع والخوف من أن يتطور المرض إلى الحد الذى لا يمكن علاجه.
المأساة الثالثة.. السوق السوداء للتاميفلو
الآن وصلت عبوة التاميفلو.. ولكن ما الذى علينا فعله بعد ذلك؟
اكتشفت أيضاً أنه لا يوجد بين أطبائنا قرار حاسم أو معلومات واحدة فى كل ما له علاقة بهذا المرض، لا أحد يعرف شيئا على وجه اليقين، فوضى من الفتاوى الطبية لا تتوقف، كنا نسأل تحت ضغط من الخوف كل من نعرفهم من الأطباء المختصين عن الخطوة التالية، فلا يزال ماثلاً أمامنا هذا الطفل الذى فقدته عائلته بحقنة الفولتارين فى الوقت غير المناسب، فكنا نسأل بلهفة:
ما دواء الكحة المناسب هنا؟
هل نواصل إعطاءها خافض الحرارة مع التاميفلو؟
هل نستبدل خافض الحرارة إذا تجاوزت حرارتها 38 درجة؟
أسئلة واضحة ومباشرة لكن الإجابات كانت تأتى متضاربة ومتناقضة، ولا تستند إلى أى حقيقة أو تجربة علمية، فقررت طوعاً فى النهاية أن أنحاز لما يقوله الصديق الدكتور عبدالهادى مصباح الذى أثق فى اطّلاعه العلمى ومعرفته الواسعة، وإصراره على متابعة التجارب فى الداخل والخارج، فاتبعت كل ما قاله والحمد لله أنه أصاب فى كل رأى تفضل به علينا، ولكن وقفت أيضاً أمام حفنة من الأسئلة: ما الذى يمكن أن يفعله الناس هنا إن لم يكن لديهم معلومات حقيقية؟ وما الذى ينقلنا مباشرة لكل هذه الفوضى فى المعلومات؟ وما الذى يدفع الأطباء إلى اختلاف الرأى على هذا النحو بدون أجندة واضحة وإجابات جامعة مانعة من وزارة الصحة يتم اعتمادها لحسم هذا الإرتباك، خاصة أن العائلات تفقد السيطرة والتفكير بدقة خلال هذه العاصفة من التوتر؟
المدهش هنا وسط هذه المأساة أن كل الأصدقاء من الأطباء أطلعونى للمرة الأولى على تفاصيل السوق السوداء لدواء التاميفلو فى مصر، بكل بساطة اكتشفت أننى لم أكن فى حاجة لكى أتحدث إلى مستشار وزير الصحة ليرسل لى هذه الجرعة المجانية، جزاه الله خيراً، بل كان على أن أعرف خيوط السوق السوداء للعبوات فى عدد كبير من الصيدليات فى مصر، لكن عليك أن تكون جاهزاً لكى تسدد الفاتورة فالتاميفلو يتراوح سعره بين 400 جنيه و 470 جنيها داخل القاهرة وحدها، ويمكن أن يصل إلى أسعار مضاعفة فى محافظات أخرى، ويمكن أن يقفز السعر إلى 600 جنيه فى حالة وجود أصناف أمريكية من الدواء، ويمكنك شراء أى كمية تشاء من عبوات الدواء طالما كنت جاهزا للدفع.
أعترف لك بلا تردد أننى بادرت إلى شراء عبوات احتياطية من السوق السوداء استعداداً لأى تطورات غير محسوبة فى انتقال المرض إلى أى من أفراد الأسرة، لم أكن مستعداً لكى أواجه الصدمة مرة أخرى بلا تجهيز، لكننى فى الوقت نفسه تحسرت على ما يمكن أن تواجهه أى عائلة أخرى، لا تجد إلى هذا الدواء سبيلاً، أو لا تستطيع تدبير نفقات شرائه من السوق السوداء فى حالة اصطدامها بالطرق المسدودة فى المستشفيات العامة والخاصة على النحو الذى فاجأنى فى المرة الأولى.
المأساة الرابعة..المدرسة
ما إن حصلت فيروز على التاميفلو حتى بدأت التفكير فى زملائها فى المدرسة وفى فصلها الدراسى الذى ربما التقطت منه العدوى، فطلبت من زوجتى الاتصال بالمدرسة، لإطلاع الإدارة على نتيجة التحليل لاتخاذ الاحتياطات اللازمة فى الفصل، خاصة أن المدرسة كانت قد أغلقت بعد أسابيع قليلة من بداية العام الدراسى نتيجة لوجود عدد كبير من الإصابات فى أكثر من فصل.
واعتبرت من جانبى أن إطلاع المدرسة جزء من واجبنا الحتمى، حتى لا تتسع الإصابات، وكانت المفاجأة أن المدرسة ملزمة بعدم الاعتراف بنتائج المعامل الخاصة بناء على قرار وزير الصحة، وأن مبادرتنا بإبلاغ الإدارة كانت نوعاً من العبث الذى لا طائل من ورائه، فلا إدارة المدرسة أبلغت تلاميذ الفصل بالإصابة، أو أطلعت أولياء الأمور من زملاء فيروز على ما جرى، وكأن شيئاً لم يكن، فمن كانت نتائجه من المعامل الخاصة فهو خارج حسابات الوزارة، وخارج حسابات المدرسة، ولا أفهم هنا معنى لذلك، خاصة أن الإصابة قادمة من الفصل دون أدنى شك، وأن ما تعرضت له ابنتى يمكن أن يتعرض له تلاميذ آخرون داخل المدرسة.
على أن زوجتى لم تستسلم لهذا التجاهل من إدارة المدرسة، وقررت أن تبادر بنفسها بإبلاغ من تعرفهم من المدرسين والمدرسات من زميلات فيروز، لكى تبادر كل عائلة باتخاذ الاحتياطات المناسبة، ثم تلا ذلك أن ظهرت حالات أخرى فى المدرسة، كشفتها تحليلات وزارة الصحة، وصدر قرار بإغلاقها لمدة ثلاثة أسابيع.
ولا أظنك هنا فى حاجة إلى دليل على أننا نعيش فوضى حقيقية، فلا أنت تعرف لماذا سمح الوزير للمعامل الخاصة بالتحليل، ثم اعتبر أن قرار هذه المعامل بلا قيمة، ولا أنت تفهم لماذا لا تقوم هذه المعامل بإبلاغ الوزارة بالنتائج لكى تكتشف بؤر الإصابة وتتعامل معها، ولا يمكنك أن تفهم ما الدور الذى تقوم به مستشفيات الحميات أو المستشفيات العامة، ولا لماذا يتم توزيع التاميفلو مركزيا من إدارة واحدة فى وزارة الصحة، ولا من المسئول عن ظهور السوق السوداء للتاميفلو، ومن يدخله إلى مصر، ومن المسئول عن بيعه بهذه المبالغ الهائلة.
ولا تستطيع أيضا أن تفهم من يمثل المرجعية الطبية فى مصر فيما يتعلق بالعلاج أو تفاصيله، ولا من المسئول عن تحديد الأدوية المصاحبة للتاميفلو فى دورة العلاج، ولا ما هى الإجراءات التى يتم اتخاذها مع العائلات المصابة للتقليل من انتشار العدوى، فى حالتى مثلا لم يتم الاتصال بى من قبل وزارة الصحة على الإطلاق بعد حصولى على التاميفلو، ولم يتابع أحد أى إجراء فى المبنى الذى أسكنه، أو فى مقر عملى وزوجتى.
لا تسأل إذن عن هذه الزيادة المريبة فى عدد الإصابات، ولا عن تصاعد عدد الوفيات من جراء الفيروس، الإجابة واضحة، أمام عينيك، فكل هذه الفوضى والعبث وتضارب الفتاوى الطبية، وعدم وجود سبيل واضحة للحصول على التاميفلو وانتشار السوق السوداء، وعدم وجود آلية لتحديد دور المعامل الخاصة فى التحاليل، ثم هذه الأسعار المرتفعة للمعامل الخاصة التى تشق على الأسر متوسطة الحال، ثم تردد مستشفيات الحميات فى إجراء التحاليل، والتقصير فى التعامل مع المدارس المصابة، وعدم الاعتراف بنتائج التحاليل الخاصة فى التعامل مع المدارس، كلها عوامل قد تساعد على انتشار المرض، وقد تحرم مريضا من الاكتشاف المبكر، أو تحرم مصابا من الوصول إلى الدواء بسهولة، أو الحصول على الرعاية وقتما يحتاج إليها خلال معركته مع الفيروس.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.