قبل أيام شاركت فى مناظرة ثقافية ممتعة بين فريق من المؤرخين المصريين، والمفكر الإسلامى التركى أحمد كوندز.. المناظرة تحولت إلى ما يشبه المحاكمة التاريخية للدولة العثمانية التى حكمت العالم العربى على مدى أكثر من 600 سنة وامتدت رقعتها على طول حوالى 20 مليون كم، من آسيا إلى أوروبا وصولاً إلى أفريقيا.. هذه المحاكمة جرت بمناسبة صدور كتاب هام للبروفسير كوندز بعنوان "الدولة التركية المجهولة".. الكتاب صدر فى عدة لغات، منها الإنجليزية والعربية إلى جانب التركية.. الكتاب يتضمن خلاصة ما يقرب من 2000 محاضرة للمؤلف ردوده على 300 سؤال حول تاريخ الدولة العثمانية.. هذا الكتاب اعتبره البعض مجرد كتاب للجيب، بينما أراه مرافعة قوية للمؤلف عن التاريخ العثمانى أمام محكمة التاريخ.
اللافت فى النقاش العلمى الذى جرى بين المؤلف التركى والمؤرخين المصريين، أن بعض المؤرخين، حملوا الدولة العثمانية وزر حالة التخلف والتردى التى يعيشها العالم العربى حالياً، مما دفع المؤلف كوندز إلى الدفاع المستميت عن أجداده، لدرجة أنه اعتبر غزوهم وفتوحاتهم بمثابة استكمال لرسالة الرسول الكريم "ص" فى نشر الإسلام وتثبيت العقيدة لدى المسلمين.
نقاط عديدة أثارها المؤرخون المصريون بحق الدولة العثمانية، بعضهم رأى أن فترة "احتلال" الدولة التركية لمصر والعالم العربى كانت وبالاً على الأمة ولم تجلب على شعوبها سوى الفقر والضعف والتخلف.
المؤرخون أثاروا قضية فساد السلاطين، الذين تفرغ بعضهم إلى اللهو مع النساء وإدمان الخمر، والامتناع عن أداء فريضة الحج، والعمل على إصدار فتاوى دينية مغلوطة، مثل فتوى تحريم قتال الاحتلال الإنجليزى فى الهند، وخطف الأطفال ووضعهم فى معسكرات معزولة، كما فرض والى مصر على الرعية توريد القمح لنقله إلى الأستانة وحرم المصريين من تناوله.. المصريون اضطروا لاستبدال القمح بالذرة فى طعامهم اليومى، لكن أهم ما أثير فى الجلسة، أن الدولة العثمانية تقاعست عمداً عن نصرة المسلمين فى الأندلس وكانوا سبباً فى هزيمتهم وضياع ملكهم، فضلاً عن ضياع فلسطين وتواطؤ متصرف القدس، زوج ابنة السلطان عبد الحميد فى منح 400 عائلة يهودية حق الإقامة بالقدس.. هؤلاء اليهود أنشأوا 24 مستوطنة بالمدينة، وكانوا النواة التى تأسست عليها دولة إسرائيل فى فلسطين حتى يومنا هذا.
المفكر التركى أحمد كوندز ظل صامتاً طوال استعراض المؤرخين المصريين لرؤيتهم، ثم انطلق فى الرد وتفنيد معظم القضايا التى أثاروها.. فاعترف بأن من بين السلاطين من كان يدمن الخمر، ولا يصلح ليكون سلطاناً فى الأصل، لكن بالنسبة لقضية الحريم السلطانى، فكان يضم شقين، الأول مهمته الخدمة، والقسم الثانى ما ملكت أيمانهم، وهن ما يحق للسلطان وأبنائه "استفراجهن" ودافع باستماتة عن بعض السلاطين، ووصف بعضهم بالملائكة من شدة طهارة سيرتهم وإخلاصهم فى الدفاع ونشر العقيدة الإسلامية، وتطرق للسبب فى عدم الدفاع عن مسلمى الأندلس بأن ذلك يرجع للفتنة التى لعبها الأوروبيون بين العثمانيين والأندلسيين، ومع ذلك أرسلوا لهم سفناً تحمل الغذاء والمؤن، لكن لم يحاربوا إلى جانبهم.
أما بخصوص اتهام العثمانيين بضياع فلسطين، ردد مقولة أن السلطان العثمانى رفض كل الإغراءات اليهودية للتنازل لهم عن القدس، كما اضطر إلى شراء الأراضى بأمواله الخاصة لمنع عرب فلسطين من بيعها لليهود، وأنه لم يسمح بالإقامة فى القدس إلا لمن يحمل منهم هوية تثبت أنه من رعايا الدولة العثمانية.
لا أنكر استمتاعى بتلك المباراة الفكرية الهامة، ولفت نظرى أن البروفسير أحمد كوندز الذى يقود تياراً فكرياً قوياً داخل تركيا للعمل من أجل إحياء الدولة العثمانية والعمل على إنصافها والدفاع عنها فى كل المحافل الدولية.. فقد لاحظت دفاعه الشرس عن أجداده، وهذا حقه، بل ربما يكون واجباً عليه.. اللافت أن البروفسير كوندز رغم ميله وقربه الشديد للتيار الإسلامى الحاكم حالياً فى تركيا، إلا أنه كان حريصاً على عدم تشويه تاريخ "كمال أتاتورك"على عكس المشاركين المصريين.
أثناء متابعتى للنقاش الساخن، تذكرت ما قاله رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان أثناء العدوان الإسرائيلى على غزة "لا يمكن أن نقف صامتين وأحفاد العثمانيين يقتلون فى غزة".. هنا توقعت أن تركيا الجديدة لا تسعى فقط لإحياء الإمبراطورية العثمانية، بل تتجه بقوة نحو العالم العربى.. فهل نحن جاهزون للتعاون والتفاهم مع المد التركى الجديد؟