فعلت أزمة الجزائر الأخيرة كل شىء من البكاء وحتى المرمغة فى التراب، كان أكثر عيوبها ذلك الوجع الذى تشبث بكرامة المصريين ولم يتركها، واكتشاف جانب جديد من الشعب الجزائرى قائم على البلطجة، وأفضل فوائدها أنها كشفت حقيقة الفنان المصرية أو أغلب فنانين مصر إن شئنا الدقة، الذين ظهروا على حقيقتهم الخالية من أى ثقافة أو معرفة أو عقل أو احترام، لدرجة أن ماتبقى من أخلاقهم لم تمنعهم من التطاول على شهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
وإذا أردت دليلا قاطعا على أننا أمام جيل من الفنانين والمطربين لا يعرف الألف من جوز الذرة، ويسعى للمزايدة على الوطن الذى لا يعرف له وزنا أو قيمة، لابد أن تراجع كمية الأغانى الوطنية التى ظهرت على الساحة فى الفترة الأخيرة لتكتشف مأساة ربما تكون أكثر قسوة من كارثة أحداث الجزائر نفسها، أغانى تنتمى للنصف الثانى من الجملة الرائعة "جينا نغنى للناس.. فغنينا عليهم". صحيح أن بعض رجال الطرب القديم سقطوا فى ذلك الفخ وغنوا على الناس ولكن على الأقل يكفيهم أن نواياهم الصادقة كانت هدفها الغناء للناس لا عليهم.
"جينا نغنى للناس.. فغنينا عليهم".. هل قال العظيم صلاح جاهين هذه الكلمات حقا بعد نكسة يونيو، أم أنها من خيالات محبى الحديث عن ذكرياتهم معه؟ السجن الانفرادى الذى أغلقه جاهين على نفسه عقب الهزيمة المرة فى 67 يؤكد أن هذه الكلمات جاءت على لسان أبو المبدعين، ربما لأن بها بعض من القسوة الساخرة التى تتميز بها كلماته، أو ربما لأنها الحقيقة التى يمكنك أن تكتشفها بكل بساطة حينما تتأمل جاهين والعندليب يتغنون بكلمات: يا أهلا بالمعارك، بينما الصهاينة يسلخون جلود أبنائنا على رملة سيناء، ويمكنك أيضا أن تكتشفها بشكل أسرع حينما تمنح لعقلك فرصة ليركز مع أغنية «دع سمائى فسمائى محرقة» بينما كانت كل طائراتنا التى من المفروض أن تحمى سماءنا مجرد خردة وهى على الأرض لم تنطلق بعد.. هذه هى الحقيقة رغم كل الكلمات «المتزوقة»، رغم جمال وحماسة ما تغنى به العندليب، رغم روعة ملحمة بناء السد العالى الغنائية، رغم بكائك وأنت تسمع «ناصر يا اشتراكية.. ناصر يا حرية»، هؤلاء العظماء - جاهين وحليم والأبنودى والموجى - سقطوا فى الفخ وبدل من أن يغنوا للناس غنوا عليهم كما قال جاهين بالضبط.
والحقيقة أيضا أنهم لم يكتفوا بالغنا على الناس وقتها فقط، بل غنوا على الوطن ولعبوا فى أساس الأغنية الوطنية دون أن يدروا بذلك، حولت دفة الغناء للوطن باتجاه الرئيس، فأصبحت الأغانى التى تمجد اسم عبدالناصر والسادات من بعده ومبارك من بعد بعده أكثر بعشرات المرات من الكلمات التى تغنى لمصر.. انزوى الوطن لمصلحة الزعيم لدرجة أن عبدالوهاب وعبد الحليم تجاهلا خسائر مصر فى اليمن ولحن الأول وغنى الثانى..» يا حبايب بالسلامة رحتم ورجعتولنا بألف سلامة.. رحلة نصر جميلة.. مشوار كله بطولة»، ومن بعدهما جاء عشرات الفنانين ليؤكدوا على طهر ونقاء ومعصومية الرئيس مبارك فى أوبريت «اخترناه» الشهير ولم يكتفوا بجريمة استبدالهم الرئيس بالوطن بل تطاولوا فى كلمات الأغنية أكثر حينما بدت كلمات الأوبريت الشهير وكأنها تعاير مصر وشعبها بإنجازات وصفات رئيسها.
من المسئول عن تلك الخدعة التى استبدلت الرئيس بالوطن، وجعلت الغناء له فريضة تكفى عن الغناء للوطن؟ هل هم المطربون وصناع الموسيقى الذين يتهم البعض أغلبهم بأنهم تعاملوا مع الأغنية الوطنية بمنطق السبوبة والرغبة فى التقرب من رجال الحكم فلووا عنق الكلمات لتتغنى بالرئيس بدلا من الوطن؟ أم أن المسئولين أنفسهم كانوا يطلبون أغانى بأسماء الرؤساء كما حدث فى عصر الرئيس السادات؟
بالتأكيد الأغانى الرئاسية اختلفت فى عصر ناصر عن عصر السادات عن عصر مبارك، وبالتأكيد جاء أغلبها معجونا بالنفاق والكذب، ولكن كان لأغانى عبدالناصر طعم ولون، وكانت بلا عدد، ربما لأن وقتها كان هناك حلم يهرول خلفه الناس، كان هناك إنجاز يسعى خلفه الشعب، بغض النظر عن كونه أصبح سرابا فيما بعد، وفى عصر السادات أيضا وجد صناع الأغنية نصر أكتوبر ليصنعوا برفقته ملحمة غنائية تناسب الحدث الجلل، ووجد السادات نفسه مضطرا لاستخدام الأغنية فى الترويج لرحلة السلام بغض النظر عن اختلافك معه، وكانت الأغانى فى عصرى السادات وناصر جيدة الصنع تسرق الحس من أول مطلع وتلهب الحماسة مع أول كوبليه، على عكس عصرنا الحالى الذى جاءت أغانيه مسلوقة وباردة ربما لأنه عصر الأحلام والإنجازات خالية الدسم أو لأن بتوع الفن زمان غير بتوع الفن دلوقت.