الأراضى والعقارات» هى القاسم المشترك الذى يجمع بين أسماء ربما لم يكن أحد يتصور أن تجتمع فى ملفات الثراء والفساد وتقارير الرقابة الإدارية مع أسماء نجحت «بخبطة» واحدة فى أن تحول الجنيه إلى مليون جنيه فى أقل من عام.. أسماء انتقلت من خانة المليونيرات إلى خانة المليارديرات فى غمضة عين لأنها تحولت إلى هذه العبارة السحرية التى وقع فى فخها وزراء وموظفون ورجال أعمال، وأسماء مثل الدكتور محمد إبراهيم سليمان وزير الإسكان، ويحيى الكومى، وخلود العنزى، وهدى عبدالمنعم، وإبراهيم كامل، وآل طلعت مصطفى، الكل حصل على الأرض بالقانون أو بالالتفاف حوله، والكل يتصارع للحصول على ملايين الأمتار من أراضى الدولة بعدة جنيهات لا تذكر وبلعبة صغيرة لا تكلفهم شيئا يعيدون بيعها من خلال عقارات بالملايين، إذن الحل السحرى للثراء الفاحش والسريع هو السطو على أراض صحراوية.. جميع قضايا إهدار المال العام فى مصر، كان وراءها عبارة «أراضى الدولة»، وقصة البلاغات المقدمة ضد وزير الإسكان السابق محمد إبراهيم سليمان، وكذلك الخلاف الذى نشأ بين رجل الأعمال يحيى الكومى مع سيدة الأعمال السعودية خلود العنزى، أكبر مثال على أنه لم يعد لدى أى مصرى أدنى شك أن الطريقة الأسرع والأسهل والأكثر أمانا لتكوين الثروات الطائلة فى هذا البلد هى «تسقيع الأراضى»، فاليوم يمكنك أن تحصل بالتخصيص على قطعة أرض مقابل بضعة آلاف من الجنيهات، لتبيعها بعد عدة أشهر مقابل الملايين.
البعض يكون محظوظاً.. يشترى قطعة أرض، ليفاجأ بعد فترة وجيزة أن سعرها ارتفع وأصبح مليونيراً، وهؤلاء المحظوظون لم يعد لهم مكان، بعدما احتكر مجموعة من رجال الأعمال عملية «تسقيع الأراضى»، وهؤلاء لهم طرقهم فى تكوين الثروات من «التسقيع».
والتى غالبا ما تكون باستغلال العلاقات الشخصية بالمسئولين، يستطيعون الحصول على معلومات أن الحكومة بصدد إنشاء كوبرى رئيسى فى منطقة ما، أو مشروعً قومى، أو حتى إنشاء طريق جديد، وهذا يترجم فى عالم صفقات بيع وشراء الأراضى، أن قطعة الأرض التى قيمتها «قرش»، سترتفع بعد المشروع القومى لتقدر بالآلاف.
أما البعض الآخر وهو من النوعية الأكثر نفوذاً فهو لا ينتظر الحدث ولكنه يصنعه، وذلك بالاتفاق مع أصدقائه من المسئولين بالإسراع لتنفيذ مشروعً ما فى وقت معين بالقرب من أراض يملكها، ليرتفع سعرها حسبما يخطط.
أما من لم يحظوا بعلاقات قوية بصناع القرار، فلديهم من الذكاء ما يمكنهم من نشر الشائعات، عن إنشاء مشروع حيوى، سيرفع من سعر الأراضى التى يملكونها هم أصلاً، ولا قيمة لها، فتباع بأضعاف أضعاف سعرها الأصلى.
قائمة رجال الأعمال وأثرياء «تسقيع الأراضى» طويلة وتضم أسماء كثيرة، بعضهم ثبت تورطه والبعض حفظت ضده بلاغات كثيرة، وهؤلاء يكشف عن أسمائهم الكثير من استجوابات وطلبات الإحاطة التى تقدم بها أعضاء مجلس الشعب، ومن بين هؤلاء: مجدى راسخ، وصلاح الحاذق، وشفيق بغدادى، وصفوان ثابت، والمحمدى حويدق. وأيضاً رجل الأعمال مدحت بركات الذى يحاكم حالياً بتهمتى القتل العمد، والاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضى المملوكة للدولة بطريق مصر - الإسكندرية الصحراوى.
ظاهرة تسقيع الأراضى بدأت فى الظهور بقوة منذ منتصف الثمانينيات، وأحد الرواد الأوائل لتلك الظاهرة سيدة الأعمال المعروفة هدى عبدالمنعم الملقبة بـ«المرأة الحديدية»، والتى تمكنت عبر شركتها «هيديكو مصر» من تكوين 70 مليون جنيه فى 7 سنوات، عبر عمليات الاستيلاء وتسقيع الأراضى، والإعلان عن بناء مشروعات سكنية مزعومة، فوق أراض لا تملكها.
واستمرت تلك الظاهرة فى عهد وزير الإسكان السابق الدكتور محمد إبراهيم سليمان خلال سنوات عمله كوزير، منذ 1993 وحتى 2005، والذى كان أحد أكثر الوزراء إثارة للجدل فيما يتعلق بقضايا الاستيلاء على أراضى الدولة.
وقد وجه له وقتها الكثير من الانتقادات والاتهامات لم يستطيع أحد أن يثبتها إلا مؤخرا، والقائمة طويلة، فقد منح سليمان كلاً من زوجته منى صلاح الدين قطع الأرض رقم 189 الحى الخامس منطقة العمارات بمساحة 1393.01 مترًا، وابنتيه جودى ودينا وابنه القاصر شريف سليمان فيلات وقطع أراض بالمنطقة المميزة بالتجمع الخامس، بالإضافة إلى قطع أراض وفيلات منحها لأقارب زوجته وأبنائهم وأقاربه وأصدقائه المقربين، وأيضاً ما منحه لرجل الأعمال عماد الحاذق، شريكه فى مجمع «ليك فيو بالقطامية».
لكن الظاهرة لم تنته برحيل إبراهيم سليمان من وزارة الإسكان، فمؤخراً، وبالمصادفة اتضح أن المهندس يحيى الكومى المقاول السابق ورئيس مجلس إدارة نادى الإسماعيلى الأسبق، هو أحد هؤلاء وذلك بعلاقاته الوطيدة برجال الدولة، فقد تمكن من الحصول على عدد من قطع الأراضى بأسعار زهيدة فى مناطق متميزة مثل العين السخنة ومارينا والساحل الشمالى والإسكندرية والقاهرة الجديدة، وحينما تعرض لضائقة مالية نظرا لتداعيات الأزمة العالمية قرر بيع مجموعة من فيلاته، وهو ما كشف النقاب عن الأسرار الخفية وراء حصوله عليها، وأشار إلى وجود صفقات أخرى وخفايا لا يعلمها إلا هو والمقربون منه فقط، وهو ما كشف عنه إعلان عن بيع تلك الفيلات نشره الكومى فى عدة صحف، وهو ما فجر الأزمة بينه وبين سيدة الأعمال السعودية خلود العنزى.
هشام طلعت
والنتيجه أن مصر دخلت فى أزمة إسكانية خانقة وكثافة سكانية عالية مركزة فى وادى النيل الذى لم يعد يحتمل مزيدا من البشر، وسبب الأزمة معروف ويتلخص فى ارتفاع أثمان الأراضى بشكل جنونى دون مبرر.. وهى أزمة مفتعلة لأننا لا نعانى من نقص فى المساحة، وإنما نعانى من سوء التخطيط والفساد الذى يؤدى إلى الاحتكار والمضاربة ورفع الأسعار إلى أرقام غير مبررة اقتصادياً؛ مما أدى إلى ظهور مليونيرات الأراضى الذين أثروا ثراء فاحشاً دون تعب أو إنتاج، وصنعوا أزمة كان من الممكن تجنبها. فقد أدت هذه السياسة غير الرشيدة إلى رفع تكاليف المسكن البسيط إلى أرقام فلكية لا يقدر عليها معظم المصريين الذين يعيشون فى عشوائيات وفقر لا يمكن تصوره..
ليظل السؤال مطروحا بقوة: لماذا ظاهرة تسقيع الأراضى وتجارتها هى الوسيلة التى يلجأ إليها رجال الأعمال؟ وهو السؤال الذى تولى الإجابة عنه الدكتور حمدى عبدالعظيم رئيس أكاديمية السادات السابق بأن الاستثمار فى العقارات وتسقيع الأراضى سببه عدم وجود عائد استثمار مناسب فى البنوك، وبالتالى فالمستثمر يجد أن البنك يصرف فائدة منخفضة مع غلاء الأسعار تتآكل قيمة الودائع إلى جانب المخاطرة العالية المرتبطة بعملية المضاربة فى البورصة ولذلك يبحث المستثمر عن البديل الذى تتزايد قيمته مع كل زيادة فى الأسعار فيكون الاستثمار العقارى هو الأكثر ملاءمة باعتبار أن قيمة الأراضى الزراعية والصحراوية والعقارات تتجه إلى زيادة الاستثمار نتيجة زيادة الطلب على الأراضى من جانب العرب والمستثمرين الأجانب والمصريين المقيمين، وفى هذه الحالة يطمئن المستثمر بأن أمواله تتزايد مع الوقت ودون مخاطرة أو حتى الخضوع لأى ضريبة، الدولة ليست المتضررة، لكن المواطن المصرى هو المتضرر من عملية تسقيع الأراضى لأنها تزيد من مشكلة الإسكان أما المضاربون فهم المستفيدون.
ويشير عبدالعظيم إلى أنه كان من المفروض أن تستثمر تلك الأموال فى الزراعة أو الصناعة باعتبارهما من الأولويات لأن المضاربة فى العقارات تؤدى إلى حرمان هذه القطاعات من الأموال التى استثمرت فى غيرها، وهذا يطلق عليه فى الاقتصاد «تكلفة الفرصة الضائعة» لأن الاقتصاد فى هذه الحالة يضحى بالأموال التى كانت من المفروض أن تستثمر فى توفير الغذاء والدواء والكساء والسلع المعمرة التى يحتاجها المواطن، لأن الاستثمار العقارى يكون على حساب هذه المجالات، وتضطر الدولة أن تستورد الغذاء والدواء وكل الاحتياجات الداخلية وزيادة الديون الخارجية، إضافة إلى زيادة العجز فى الميزان التجارى والتأثير سلباً على قيمة الجنيه المصرى مقابل العملات الأجنبية.
وقد كشف النائب إبراهيم الجعفرى فى «اليوم السابع» العدد الماضى أن مصر ضاعت منها ثروة عقارية ضخمة جداً فى الـ20 سنة الماضية، وأن الاحتياطى الاستراتيجى للأجيال القادمة أصبح قليلاً جداً، مؤكداً أن التلاعب ووضع اليد أضاعا على الدولة أكثر من 700 ألف فدان فى الـ30 سنة الأخيرة، وقانون حماية الأراضى وثرواتها لعام 1981 لم يمنع إقامة المنتجعات العمرانية على الطرق الصحراوية.
وروى عن منتجع فوزى السيد على طريق مصر إسماعيلية، ولم يتخيل أنه فى مكان داخل مصر، وقدر الثروات العقارية فى مصر بتريليون جنيه.
كما أشار الدكتور مصطفى مدبولى رئيس هيئة التخطيط العمرانى واللواء عمر الشوادفى رئيس المركز الوطنى لتخطيط استخدامات أراضى الدولة إلى بلاغات ومحاولات لمنع الاعتداء على الأراضى، وكيف أن أحد المستثمرين حصل على أرض زراعية بنى عليها.
لقد حاولت الدولة منع الاعتداء على طريق مصر الإسكندرية الصحراوى واتضح أن جهات وأشخاصا وافقوا على منح الأرض، التى تحولت من أراض صالحة للزراعة إلى قصور وفيلات، وهناك أشخاص وضعوا أيديهم على 55 ألف فدان.
الأراضى المملوكة للمحافظات المختلفة كانت هدفاً آخر لرجال الأعمال، ومؤخرا دخلت أراضى محافظة القاهرة إلى سياق الأحداث فقد خصصت المحافظة خلال الأعوام العشرة الماضية 446 قطعة وصل سعرها إلى 327 مليون جنيه، حصلت مقابلها على 29 مليون جنيه فقط، ومنحت بعض رجال الأعمال المتر بـ80 جنيهاً مع تسهيلات فى السداد تصل لعشر سنوات.. قرارات التخصيص تمنح الحق فى البناء بدون ترخيص بالإضافة إلى الإعفاء من الفوائد لمدة 5 سنوات، هناك شركات حصلت على الثروة من باب التخصيص منها شركة القاهرة للإنماء والتعمير، المملوكة لعضو مجلس الشورى الكبير، وغيره ممن سقعوها سنوات قليلة ليبيعوها بمائة ضعف ثمنها أو أقل أو أكثر.. كل هذا بالتخصيص.. الباب السحرى لكل أنواع الثروات.