جدد الإعلان عن عودة د. محمد البرادعى إلى القاهرة امس الجدل حول «معركة» الانتخابات الرئاسية المقبلة بعد أن استأثرت «معارك» كروية بالقسم الأعظم من الاهتمام العام لعدة أسابيع.
عاد اسم البرادعى مجدداً إلى الإعلام عبر تحرك مجموعات من أنصاره لتنظيم استقباله ومحاولة تحويله إلى حدث سياسى بارز بعد أن خفتت الأضواء حوله على مدى أكثر من شهر. فكان آخر حضور إعلامى قوى للبرادعى عبر ترديد اسمه فى المظاهرة التى نظمتها حركة «كفاية» فى ديسمبر الماضى فى ذكرى مرور ٥ سنوات على انطلاقها.
وهذه مفارقة تستحق التأمل. فالحركة، التى استهدفت تغييراً من خلال تحريك الحياة السياسية وإطلاق تفاعلات داخلية أكثر حيوية، انتهت إلى الرهان على مرشح للرئاسة لم يكن موجوداً فى مصر عند تأسيسها ولم يمارس عملاً سياسيا مباشراً أو غير مباشر من قبل. فالفرق بين «كفاية» اليوم وما كانت عليه فى ٢٠٠٤ يلخص المسافة التى تبدو بعيدة بين لحظتين تعتبران قريبتين زمنياً.
كان الأمل فى ٢٠٠٤ - ٢٠٠٥ كبيراً فى إصلاح يفتح الباب أمام مشاركة سياسية متزايدة، ويخلق الأجواء التى يظهر فيها مرشحون للرئاسة بشكل طبيعى، أى من خلال تفاعلات نرى مثلها فى كثير من بلاد العالم الآن. غير أن الأمر انتهى إلى محاولة «صنع» مرشح للرئاسة بطريقة غير طبيعية وبمنأى عن التفاعلات السياسية والحزبية التى ظلت على حالها وتراجعت الحيوية المحدودة التى ظهرت فى العام ٢٠٠٥.
والمشكلة، هنا، ليست فى شخص البرادعى الذى قدم نموذجا راقياً فى الأداء المهنى خلال توليه مسؤولية الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى فترة عواصف عاتية، فقد نجح فى اجتياز اختبار بالغ الصعوبة فى العراق عشية الغزو الأمريكى، كما صمد فى اختبار أكثر صعوبة وتعقيداً فيما يتعلق بالبرنامج النووى الإيرانى، بالرغم من قوة الضغوط الأمريكية، وانتصر على الولايات المتحدة فى معركة تجديد قيادته للوكالة الذرية قبل ٤ سنوات.
فقد سعت واشنطن إلى إحباط تجديد ولايته، ولكنها فشلت فى تغيير موقف ٣٤ دولة أصرت على هذا التجديد، غير أن نجاح البرادعى فى قيادة منظمة دولية لا يعنى أنه يستطيع خوض انتخابات لقيادة بلده، ولا صلة لذلك باتهامه بافتقاد الخبرة السياسية الداخلية، فهو لا يتقدم لشغل وظيفة، وإنما يمارس عملاً عاماً لا مؤهل له إلا القدرة على إقناع الناخبين بجدارته.
وهذا هو ما ينقص البرادعى لأنه ليس معروفاً لدى أغلبية المصريين، بالرغم من شهرته فى أوساط النخب السياسية والثقافية وقطاع من الجمهور يُعنى بالقضايا الإقليمية والدولية.
ولذلك ما كان لاسم البرادعى أن يبرز مرشحاً للرئاسة لو أن الأمل الذى داعبنا فى ٢٠٠٤ - ٢٠٠٥ تحقق فأصبحت الساحة السياسية أكثر حيوية فى ظل تفاعلات داخلية طبيعية تنشط فيها الأحزاب والمنظمات والشخصيات العامة، فيظهر المرشحون من قلب هذه الساحة وليس من خارجها.
ففى غياب حياة نشطة، أصبح البرادعى مرشحاً رمزياً وليس حقيقياً، وكان ظهوره نتيجة للفراغ السياسى وليس سعياً إلى ملء هذا الفراغ فعلياً، وتجسيداً لأزمة ممتدة على مدى عقود ظل التنافس الحر محظوراً فيها، والأحزاب مقيدة وتائهة لا تعرف لها طريقاً على نحو أفقدها المقومات الأساسية للحضور الفاعل.
وهكذا فعندما أجريت أول انتخابات رئاسية بين أكثر من مرشح عام ٢٠٠٥، لم تشهد منافسة حقيقية رغم وجود عشرة مرشحين. وباستثناء حضور ظرفى تميز به أحد هؤلاء المرشحين فى بعض أوساط المجتمع، بدت تلك الانتخابات كما لو أنها استفتاء آخر بصورة مختلفة، وكان هذا الحضور تجسيداً للأزمة، بل ربما أيضا تكريس لها، وليس مخرجاً منها.
وكانت هذه بداية انشغال بعض المصريين بالبحث عن مرشح بمنأى عن الأحزاب، وبعيداً عن معطيات الواقع السياسى، وبدا المعيار الأساسى فى هذا البحث هو «نجومية» الشخص الذى يمكن ترشيحه.
وما أن عبر البرادعى فى أواخر ٢٠٠٨، فى مقابلة مع محطة تليفزيونية أجنبية، عن قلقه من تراجع الأوضاع فى مصر منتقداً بعض الظواهر السلبية حتى تلقف بعض الباحثين عن مرشح رئاسى اسمه. وكان السبق فى ذلك لبعض شباب حزب الوفد الذين كانوا هم أول المروجين لترشيحه فى دلالة لا تخطئ على مدى عمق أزمة الأحزاب. ولم تمض أشهر حتى توسع نطاق أنصار البرادعى فى أوساط مختلفة، ولكنها تبقى نخبوية ومحصورة - إلا قليلا - فى قشرة رقيقة تطفو على سطح المجتمع الذى لا تعرف معظم فئاته ما يحدث على هذا السطح.
ولذلك كله، يبدو البرادعى العائد إلى الوطن اليوم «مرشحا» مصنوعاً، ومعبراً عن مدى عمق مشكلة التطور السياسى التى أصبح عنوانها هذه المرة هو البحث عن مرشح رئاسى!