بعد الاستقبال الحافل الذي لقيه الدكتور محمد البرادعي ـ المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية ـ فور عودته إلي مصر، وبعد أن فوجئ بالمئات يتزاحمون في صالة الوصول بمطار القاهرة لتحيته ومطالبته بالترشح في انتخابات الرئاسة القادمة عام 2011 أمام مرشح الحزب الوطني، ذهب البرادعي إلي منزله مثقلاً بمسئولية كبيرة وضعها المصريون علي عاتقه بعدما وضعوه في صدارة المشهد، واعتبروه أملهم في التغيير. «الامة» كانت أول من يجري حواراً مع مدير الوكالة السابق بعد وصوله بساعات. جري الحوار في حديقة منزله في طريق مصر ـ إسكندرية الصحراوي وكان قد تناول إفطاره واطلع علي جميع مواقع الصحف العالمية التي تناولت أخبار استقباله.
حاولنا من خلال هذا الحوار أن ندخل إلي أعماق الرجل وننقل أحلامه ومخاوفه، خطته ونظرته للمستقبل، واجهناه بالشائعات والادعاءات التي وجهتها إليه دوائر الحكومة فور إعرابه عن مجرد تفكيره في الترشح للرئاسة، البرادعي كان قاطعاً وواضحاً للغاية عندما قال لـ«الدستور» إنه لن يقبل بأي منصب رسمي يعرض عليه لإثنائه عن الترشح للرئاسة، ليقتل بذلك المخاوف في مهدها ويؤكد للجميع أنه ليس طامعاً في منصب بعد أن كان علي رأس أهم وكالة عالمية، وأنه ما جاء إلي مصر
إلا ليرد الجميل إلي وطنه، ويعمل مع بقية المخلصين من أجل إخراجه من النفق المظلم الذي يسير فيه منذ عقود، ووضعه في المكانة التي يستحقها والمكان اللائق به، البرادعي كان صريحاً عندما أكد أنه اندهش لضخامة الجمهور الذي حرص علي استقباله في مطار القاهرة، عندما اعترف أن الأمن لم يعمل علي مضايقة مستقبليه بل علي العكس ساهم في تنظيم الاستقبال بما يعني أن الرجل لا يبحث عن بطولة زائفة، وإلا كان ادعي أن جحافل الأمن لم تعقه عن لقاء أنصاره وتوجيه التحية لهم حتي يظهر الشجاعة والإقدام.
حديث البرادعي كان شيقاً للغاية، لمسنا فيه لمسة شجن لما وصلت إليه مصر وعلي أوضاعها التي تتطور من سيئ إلي أسوأ، لكننا لمحنا فيه في الوقت ذاته تفاؤلاً بشأن المستقبل وعزماً علي المواصلة رغم الصعوبات والمحبطات، وفضلاً عن هذا وذاك إدراكاً واعياً لمشكلات مصر وعزماً أكيداً علي حلها بأسلوب علمي واقعي مدروس بعيداً عن المسكنات التي يعتمد عليها النظام الحاكم منذ 30 عاماً حتي أدمنها الجسد المصري وأصبحت لا تجدي نفعاً معه.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل يكون البرادعي المخلص الذي ينقذ مصر مما هي فيه؟ والفارس القادم علي حصانه الأبيض لخطفها من واقع سيئ إلي غد مشرق ومستقبل منير؟.. هذا ما ستكشف عنه سطور الحوار القادمة.
> بداية هناك عتاب عليك لدي بعض الشباب الذين ذهبوا للمطار لاستقبالك ولكنك لم تلتق بهم فلماذا؟ وهل هناك ضغوط أمنية مورست عليك؟
- الحقيقة أن الازدحام الشديد والتدافع كان وراء ذلك فقد كان من الصعب اللقاء بالناس مع هذا الزحام الشديد ولم تكن هناك أي ضغوط من الأمن، بل في الحقيقة كانوا يسهلون الاستقبال.
> كيف تقرأ مشهد استقبالك في المطار وهو استقبال حاشد حضره آلاف المواطنين؟
- هذا المشهد يدل علي أن الشعب المصري في شوق للتغيير ولمستقبل أفضل، وكان الملاحظ أن الحاضرين من جميع الأعمار والمستويات الاجتماعية وهو موقف عظيم ويجب أن يكون رسالة للنظام الحاكم بأن الشعب يحتاج للتغيير.
> هل كنت تتوقع حضور هذا العدد الكبير من المواطنين؟
- لم أكن أتوقع حجم الجمهور بالتحديد، ولكن اليوم جميع الجرائد الأجنبية نشرت أن الاستقبال الذي تم أمس كان استقبال الأبطال، والناس تنظر إليَّ علي أنني رمز للتغيير أو أداة للتغيير، بل قد قرأت أمس أن هناك عائلة جاءت من الكويت خصيصًا لاستقبالي في المطار، وهذا الحضور جعلني أشعر بالحماس الشديد من جانب الشعب المصري، ولكن للأسف لم أستطع الوجود معهم لفترة طويلة ولكن سألتقي بالناس خلال الفترة المقبلة.
> أنت تطالب بتعديل الدستور.. في رأيك كيف يتحرك الشعب ميدانيا لتحقيق ذلك؟
- الشعب إذا أراد التغيير يجب أن يتحرك، فمثلا طوائف الشعب المختلفة لو قامت بتجميع توقيعات من أجل هذا الهدف مثل أساتذة الجامعات والطلبة وغيرهم من الفئات، تستطيع أن تفعل هذا، وعندها لابد للحكومة أن تستجيب؛ فهذه التوقيعات تمثل رأي الشعب وبعد ذلك يمكن أن تكون هناك وقفات من قبل الشعب للتعبير عن رغبته بشكل سلمي، حيث في كل مكان يمكن أن تكون هناك وقفات سلمية، حتي لو كانت صامتة، وهناك وسائل أخري كثيرة، ولكن في نهاية المطاف يجب أن يتحرك الشعب، لأنه لا يوجد فرد واحد يستطيع أن يغير ما يحدث بمفرده.
ولكن للأسف، الشعب المصري منذ 50 عامًا يئس من الإصلاح، وبالتالي اليوم يجب أن يعلم أنه إن أراد أن يحقق ما يريد فيجب علي كل منا أن يتحرك، ودوري كمواطن مصري أن أكون مع المصريين في كل وقت سواء في الريف أو المحافظات أو أي مكان.
> إن لم يتغير الدستور قبل الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية فماذا ستفعل؟
- يجب أن نسأل كذلك ماذا سيفعل الشعب؟!.. لابد أن يتغير في الدستور علي الأقل المواد التي تسمح للمستقلين بالترشح والتي تسمح بتحقيق الضمانات الخاصة بنزاهة الانتخابات ولو لم يحدث ذلك لن أكون جزءًا من السيناريو ولن أعطي مشروعية لنظام أعتقد أنه فاقد للشرعية.
> البعض يري أنك ستتعرض لضغوط كبيرة سواء بالترهيب أو الترغيب؟
- بداية انسوا كلمة الترغيب، فإذا عملت أي حاجة لصالح شعب مصر سأفعلها مجانًا وإذا قمت بعمل شيء بعيدًا عن الترشح لانتخابات الرئاسة لن تكون سياسية بل ستكون فنية؛ ففي الملف النووي لو طلبوا رأيي فيه سأقول رأيي مجانا وبصفة شخصية وليست رسمية، وسأقوم بهذا الأمر من أجل مصر والشعب المصري، فعملية الترغيب بأي وسيلة غير واردة تماما.
> علي ذكر البرنامج النووي.. في تقييم سيادتكم كيف تري ما يسمي بالبرنامج النووي المصري؟
- ما يثار حول اختيار موقع إنشاء المحطات النووية يخضع لاعتبارات فنية والموقع ليس أهم شيء في المشروع بل هو جزء من الموضوع، وموقع الضبعة أعدت له الوكالة دراسات من 30 سنة، ويعد تقييم هذه الدراسات مرة أخري سواء من ناحية المياه الجوفية أو غيرها من المعايير، والخبير الاستشاري عمل علي تحديث هذه الدراسات، واتفقت مع الدكتور حسن يونس - وزير الكهرباء والطاقة - علي أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية ستراجع ما يقوم به الاستشاري للتأكد من سلامة الموقع، ولكن هناك أموراً أخري ومنها وجود قاعدة جيدة لبناء هذه المحطات ولكنها غير متوافرة الآن فنحن نحتاج إلي عشر سنوات لبناء المحطات النووية، وآمل أن يكون هناك تدريب جاد وبناء للكوادر المصرية الفنية وثقافة الأمان.. وكل هذه الأمور غير موجودة حاليًا، ووزير الكهرباء المصري يأخذ هذا الموضوع بجدية لأهميته التي تملي علينا عدم التعامل مع هذا الموضوع بنوع من التراخي وعدم الدقة، ويجب أن تكون لدينا خطة واضحة الملامح حول كمية الطاقة التي نحتاجها في المستقبل ودور الطاقة النووية كجزء من توليفة الطاقات الأخري ومنها الغاز والطاقة الشمسية وطاقة الرياح، فيمكن للطاقة المتجددة أن تساهم بشكل جيد، وبالتالي المشروع النووي المصري يجب أن يناقش الآن من منظور فني وليس من منظور سياسي.
> دكتور محمد.. بصراحة ما سقف التضحيات الذي يمكن أن تقدمه من أجل تحقيق دعوتك للتحول الديمقراطي لا سيما بعد أن تعرضت لهجوم شديد من الصحف القومية مؤخرا؟
- أنا لم أهتم بحملة الصحف القومية، فهذه ليست صحفا في الأساس بل هي نشرات حكومية وقد جعلت كل ما قاموا بترديده يرتد إلي نحورهم وأعطي لي تعبئة أكثر وتعاطفًا أكبر، وعلي كل أنا أرحب بوجهات النظر المختلفة ولكن يجب أن يكون النقاش علي مستوي عقلاني وموضوعي وليس علي أساس شخصي.
> في رأيك ما القضية الأهم التي يمكن أن تحدث نهضة حقيقية في مصر؟
- التعليم طبعا، ولكن الدستور هو المدخل لكل الإصلاحات، ومعناه تقدم مصر فعندها سيتوفر لدينا مجلس شعب منتخب انتخابًا حرًا وسيكون لدينا نظام للمحاسبة وللمسئولية وسيضمن الشعب بأكمله حريته وستكون هناك فرص عمل وتخطيط سليم ورقابة ومسئولية وقضاء مستقل وسلطة تنفيذية محددة ومراقبة من جانب الشعب.. الدستور هو الخطوة الأولي، فمثلاً إذا ركبت عربة وكنت تجيد القيادة ولكن العربة تتعطل باستمرار والطريق مكسر مش هانروح ولا حتة، وبالتالي النظام مش مبني علي شخص واحد ولكن علي كل المؤسسات.
وهناك أولويات أساسية وهي التعليم، فالتعليم في مصر غير موجود وبنضحك علي بعض ونقول إن التعليم مجاني وهو غير موجود في مصر، بل المجانية ليس لها صلة بالعدالة الاجتماعية، وإلا فلماذا يتعلم أبناء القادرين مجانا؟!.. وبالتأكيد نتمني أن تقوم الدولة بإعطاء خدمات التعليم والعلاج مجانا، ولكن لا يوجد دولة قادرة علي ذلك فلابد أن يكون هناك تفكير عقلاني، ولابد أن نحقق تعليمًا جيدًا مع مراعاة العدالة الاجتماعية، ونفس الأمر بالنسبة للصحة فلو فرد ذهب إلي مستشفي قصر العيني سيعلم أن مستوي العلاج الذي يتلقاه ليس جيدا.
وكذلك بالنسبة للعشوائيات التي يوجد بها حوالي 8 ملايين مصري، فأين كانت الحكومة قبل ظهور ذلك فدائمًا نحن نعالج المشكلة بعد أن تتفاقم ويصبح حلها صعبًا المطلوب بوضوح أن نحدد أولوياتنا، فمثلا ما ننتجه اليوم من إنتاج زراعي ضعيف تماما لعدم وجود كفاءة في الإنتاج الزراعي، ولأن معظم البلاد تقوم بتصدير منتجاتها الزراعية كالخضراوات إلي أوروبا، وهناك سؤال: لماذا لم نصبح مركز العالم العربي في تكنولوجيا المعلومات؟.. الأمر ببساطة لأننا لم نحدد أولوياتنا ولا نعالج مشاكلنا إلا بعد أن تتفاقم.
نحن نحتاج إلي تخطيط سليم ومشاركة من الشعب ومسئولين يفكرون جيدًا، وفي نهاية المطاف عندما نجد أن 42% من الشعب المصري يعيشون تحت خط الفقر أو أقل من دولار يوميًا فهذا يؤكد أن هناك مشكلة وهناك 30% بعد الثورة المباركة في سن 35 سنة لا يستطيعون القراءة أو الكتابة إذن كيف سنتقدم؟!.. علي سبيل المثال اليوم كوبا التي يوجد لديها عقوبات أمريكية تصل نسبة التعليم بها 100%، وبالتالي هناك الكثير من الممكن عمله ولكن يجب أن يوضع الإطار السليم وهذا الإطار غير موجود.
> هناك خلال الفترة الماضية قدر من الاحتجاجات الاجتماعية المتزايدة في مصر فكيف تري ذلك؟
مش هانضحك علي نفسنا هذه الاحتجاجات معناها أن الشعب غير راض عن حاله، الكبير والصغير بيشتكي إما من المواصلات أو المياه الملوثة أو الطعام الملوث أو الهواء الملوث، بالإضافة إلي كم الحوادث التي لا تحدث في العالم إلا لدينا سواء حوادث العبَّارات أو القطارات أو غيرها، والبنية الأساسية للدولة تتآكل، ولدينا أكبر مشكلة وهي الفقر. ولكن المفارقة أنه حتي القادر لا يستطيع أن يشتري الهدوء أو يتخلص من البيروقراطية.
وبالتالي كل هذه الاحتجاجات من ناس بتقول «أنا عايزة مستقبل أفضل» وهم يعقدون مقارنة بين أحوالهم وأحوال الأفراد الذين يعيشون في دول الخليج مثلاً التي كانت منذ 40 سنة صحراء تسير بها الجمال، وهؤلاء لم يدعوا أنهم يعلمون كل شيء ولكن استعانوا بالأفراد الذين يمتلكون الخبرة والقدرة علي إنجاز العمل.
> هل تري أن هذه الاحتجاجات ستكون هي المدخل للتغيير في مصر؟
- مدخل التغيير يجب أن يكون علم الشعب المصري أن عليه مسئولية في التغيير وأن كل واحد لازم يشارك في التغيير وذلك بأسلوب سلمي للتعبير عن الاحتجاج، فنحن للأسف أصبحنا شعبًا سلبيًا إلي حد كبير بسبب يأسه منذ 50 سنة من أنه يستطيع أن يغير شيئا ولم يعد حتي يهتم بالديمقراطية أو الحرية، فمنذ 50 سنة لا يعلم ما هي الديمقراطية أو الحرية، ولكنه يري من حوله ثقافة الاستفتاء وغيره، والغريب أن النظام في النهاية اعتبر أن الشعب هو المشكلة مش نظام الحكم، وللحقيقة الشعب مش المشكلة الشعب هو الضحية.
> دكتور محمد.. هل قررت الاستقرار بشكل نهائي في القاهرة؟
- إن شاء الله، ولكن لدي ارتباطات كثيرة والبعض يتصور أنه بمجرد انتهاء عملي في الوكالة لا يوجد لدي أي مهام أو ارتباطات، ولكن للأسف لدي عمل كثير وسأستمر بين مصر وبعض الارتباطات الخارجية، فيوم 3 مارس القادم سأحصل علي وسام من رئيس ألمانيا يجب أن أحضره، يعقبه مؤتمر في كوريا عن الطاقة النووية، ولدي دعوة من رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة في نهاية مارس، ولكن رغم كل هذه الارتباطات فإن مصر هي بيتي وأقوم بتأليف كتاب في الوقت الحالي عن تجربتي كمدير عام للوكالة الدولية للطاقه الذرية.
ولن يفرق مكان إقامتي، فدوري سيستمر سواء داخل مصر أو خارجها وأنا مستمر في التواصل مع الشعب المصري من أجل الإصلاح.
> وماذا عن أجندة لقاءاتك خلال الأيام المقبلة وما يثار حول لقاءات مع بعض القوي السياسية المصرية؟
- هذا صحيح ولكني سألتقي ببعض هذه القوي وسأتعامل معهم كمصريين، ورسالتي هي أننا كمصريين يجب أن نتوحد حول الإصلاح وتغيير الدستور ليكون قائمًا علي الحرية والمساواة الاجتماعية، وأنا أعلم أن هناك اختلافات كثيرة بين القوي السياسية المختلفة، وهذا لا يخدم فكرة الإصلاح إلا أنني سأقوم بالاستماع إلي آرائهم وما يمكن أن يتحقق من خلالهم، وكذلك سأقيم لقاء مع بعض الممثلين من الشباب الذين لم أستطع التحدث معهم في المطار. ولن أتجه إلي زيارة الأماكن العامة، ومن الأفضل خلال هذه الفترة القصيرة أن أقيم لقاءات خاصة.
> هناك اتهام بأنك تنقطع عن مصر فترات طويلة؟
- هذا كلام غير صحيح، فأنا آتي لمصر سنويًا لزيارة العائلة ولقضاء المصيف معهم، وعلي الرغم من غيابي عن مصر لعدة سنوات فإن مصر في قلبي فهي البلد الذي نشأت فيه، وأتمني أن أري مستقبلاً أفضل لها، أتلقي اتصالات من المصريين في جميع أنحاء العالم، لكن الشيء المحزن أن منهم من يعرض المساعدة لكنه لا يعرف كيف، قائلاً «أنا ممكن أساعد إزاي» فهناك رغبة حقيقية لدي المصريين تؤكد «أن بلدنا يستحق أكثر من ذلك