الفتيات فى خدورهن يحلمن بالفارس الذى يأتى ممتطياً حصانه الأبيض كى يحملهن إلى الفردوس الموعود، وبعض القبائل الأفريقية تهوم فى الغابات باحثة عن روح الأجداد التى ستأتى لهم بالخلاص من الواقع المنكود، والبعض ينتظر المهدى، والآخرون ينتظرون المسيح، كى يأتى حاملاً معه بشارة الفردوس المفقود.
الانتظار حلو ومغر، وغير مكلف، ليس على المرء سوى أن يقعد كالمشلول فى انتظار ما قد يجيئ أو لا يجيئ، ويتحول القاعدون إلى مجموعة من ذوى الحاجات الخاصة، يتلون صلواتهم ويبتهلون بدعائهم، لعل وعسى.
لا جدال فى حاجة الإنسان للحلم، فهو المساحة التى يحلق فيها بعيداً عن خشونة الواقع وقسوة الأقدار، هو انعكاس لرغبات مكبوتة وآمال حبيسة، هو المنطقة الحرة التى يمارس فيها الإنسان ما يشاء بغير رقيب أو حسيب، الحلم هو الملك الوحيد لكل إنسان الذى لا يمكن أن ينازعه فيه أحد.. ولقد كنت أقول دائماً: " أنا الوريث الوحيد لأحلامى" .. كل ذلك مفهوم أو يمكن تفهمه، ولكن أليست هناك حاجة لاختبار هذه المفاهيم ؟
الانتظار فعل سلبى، حتى فى نطاقه الدينى، فلو اكتفى كل المؤمنين بإنتظار المنقذ دون أن يقدموا من أعمالهم الإيجابية ما يجعلهم كفاء ذلك المنقذ، فهم هالكون، وسوف يأتى المنقذ لكنه لن يجد أعواناً أو تابعين، لأن الانتظار يخلق أوهامه وأشباحه، يحول الإنسان إلى محترف للانتظار، ولدينا أمثلة فى تاريخ الأديان عندما بعث الرسول الذى ينتظرون فأنكروه وواصلوا انتظار مسيحهم الذى سوف يجيئ.. وفى التاريخ العسكرى، خسر أولئك الذين قبعوا فى خنادقهم انتظاراً لقيام عدوهم بالضربة الأولى، بينما قلما انهزم أولئك الذين انتزعوا المبادرة، وامتلكوا جسارة الإقدام مهما كانت ضآلة العدد أو العتاد، ومهما كانت متانة حصون القاعدين المنتظرين.. حتى العاشق الذى يستعذب الانتظار فى حى المعشوقة أو على محطة الأتوبيس، سوف يمضى عمره منتظراً، بينما سيفوز بحبيبة القلب من اقتحم فؤادها بجرأته، وجذبها بعنفوان إرادته وإصراره، وما تاريخ بكائيات الغرام على الأطلال إلا تسجيلاً لهؤلاء العشاق الذين تصنموا فى أركان الانتظار.
لا شك أن الحلم إمكانية رائعة، إذا كان دوره إستشرافاً للمستقبل وتمهيداً له، هو عتبة يعبرها الإنسان الجاد فى طريق كفاحه فى الحياة، وليس زنزانة يمارس فيها حياته، ولقد كان أعظم العلماء والمفكرين والثوار حالمين، إلا أن أحلامهم كانت خططاً للغد وبذوراً فى أرض المستقبل، أما الحالم المزمن فهو الذى لا يستيقظ أبداً، هو ميت لا يعيش سوى فى أحلامه.
إن الفرد قد تكون له ملكات خاصة وفريدة، لكنه بدون عمل جماعى يشبه العازف المتميز بين جوقة من النشاز، ولم يحدث فى التاريخ أن تقدمت جماعة بشرية من خلال فلسفة القطيع، ولن تنجح أية جماعة بشرية تربط مصيرها بفرد مهما كانت قدراته، إذا سلمته قيادها كى يجرجرها حيث شاء ومتى شاء.
عبادة الفرد نوع من العجز المزرى، وتتضاعف المصيبة إذا انتشر وباء العجز بين النخبة، فهو تعبير عن إفلاسها وعقمها، ولا يجوز التعلل بالظروف أياً ما كانت، لأن النخبة هم بشكل ما آباء لجماعتهم البشرية، وإذا كان الله قد من عليهم بسعة فى العلم أو المال أو كليهما، فتلك مسؤولية سيحاسبون عليها، وليست ترفاً يتمتعون به، حيث ينبغى أن يكونوا فى مقدمة الصفوف التى تهدم معابد وثنية عبادة الفرد.
لقد انتهى منذ زمن طويل عصر الفرد الخارق "السوبرمان"، هذا إذا صح أنه تواجد، وأصبحت الحياة المعاصرة شديدة التعقيد بحيث أصبح لا مناص من إدارتها بمؤسسات قادرة، قد تتطلب الطائرة طيار ماهر كى يتولى قيادتها، ولكن إذا كان الخلل فى الموتور أو فى مهندس الصيانة أو فى جسد الطائرة فأنها ستسقط مهما كانت براعة الطيار.
لقد كان أحد أسرار انتصار أكتوبر هو التحام القادة مع جنودهم، بل وأزعم – عن تجربة- أن الإعداد والتدريب وعمليات القتال نفسها تمتعت بقدر من الديمقراطية والجماعية لا يمكن تخيلها فى الحياة العسكرية، لقد كان القائد يناقش مرؤوسيه، ويلح فى طلب الرأى عند كل موقف وقرار، ولهذا لم يكن نصر أكتوبر هو مجرد قرار فوقى، وإنما مشاركة فعلية على كافة المستويات.
إن مصر الحبلى بالعبقريات وتواريخ الإنجازات لا يمكنها أن تركن إلى مخدرات الحلم والانتظار، وبقدر فخرها بإنجازات أى من أبنائها، فإنها فى طريقها إلى المستقبل يجب أن تدرك حدود أى فرد، وضرورة الإيمان بروح الفريق والعمل الجماعى، إنه التحدى الحقيقى الذى يجب أن يثبت شباب مصر أنهم قادرون على مواجهته فى هذا القرن، وذلك حلم لكنه ممكن التحقيق، ونستطيع أن نتحمل فيه بعض معاناة الإنتظار.