نقلت في هذه الزاوية أمس الأول بعض آيات معجزات من المسخرة التي اجترحتها صحف الست الحكومة (قلت إنها ورثتها عن المرحومة مامتها مع أنها ـ نظريا ـ مملوكة للشعب) أثناء تعاملها مع خبر عودة الدكتور محمد البرادعي إلي أرض الوطن، وأوضحت في ثنايا السطور كيف استعان الزملاء المسئولون عن تحرير هذه الصحف من المصداقية والقراء معاً بأساليب مهنية متطورة وحديثة جدا، مثل استخدام طريقة الرسائل النصية القصيرة «s.m.s» في صياغة خبر كان يوم الجمعة الماضي علي رأس قائمة الأخبارالأكثر أهمية لدي كل وسائل الإعلام العالمية، وكذلك التوسل بمنهج «التلقيح الصحفي» الذي أبدعته مدام «جليلة سكسة» الرداحة الجيزاوية المشهورة والمأجورة (كانت تردح وتجرس خلق الله بالأجرة) في خمسينيات القرن الماضي !
لكنني توقفت مذهولا ومعجبا أمام نموذج فريد من تطبيقات منهج مهني أشد تطورا وتعقيدا، هو في الواقع ترجمة إعلامية أمينة وشديدة المهارة والحذق للأمثولة التاريخية الخالدة التي تحكي عن أن أحدهم سأل مامته ذات صباح مشرق جميل، قائلا : ياماما علميني «التباتة» سايق عليكي النبي.. ضحكت ماما (ها ها) وردت : «التباتة» سهلة جدا يابني وزي شكة الدبوس، فقط كل ماعليك إنك دايما ـ ياحبيبي ـ تيجي في الهايفة والفارغة وتتصدر وتعَرَّض مقاس قفاك!!
وهذا بالضبط ما فعلته صحيفة «أخبار اليوم» في عددها الصادر يوم السبت الماضي عندما ضمنت ـ دون أي مناسبة ـ تقريرها الخبري «الميري» عن وقائع وصول واستقبال آلاف المواطنين للدكتور البرادعي في مطار القاهرة، ملاحظة عبقرية خطيرة خلاصتها أن الرجل جاء من مدينة «فيينا» ـ حيث مقر عمله السابق مديرا لوكالة الطاقة الذرية الدولية ـ راكبا طائرة شركة الخطوط الجوية النمساوية مع أن «شركة مصر للطيران كان لها رحلة في اليوم والموعد نفسيهما»، في إشارة يفهمها القارئ اللئيم إلي أن الدكتور البرادعي ربما يعاني نقصا شنيعا في «الوطنية الجوية» بقرينة تعمده خيانة شركة «مصر للطيران» وحرمانها هي واقتصادنا الوطني الديمقراطي كله من ثمن تذكرة عودته للوطن التي قد تصل إلي نحو 500 دولار !!
غير أن القارئ الصديق الأستاذ أسامة أحمد ـ مدير محطة الخطوط الجوية المجرية في مطار القاهرة ـ فاجأني بعد نشر المقال الذي نقلت فيه آيات المسخرة هذه، بمكالمة هاتفية أكد لي فيها أنه يملك الدليل الدامغ علي براءة الدكتور محمد البرادعي من «دم ابن يعقوب» ومن تهمة خيانة «شركة مصر» للطيران معاً، فلما سألته أن يعمل معروفا ويزودني بهذا الدليل فورا، تكرم الأستاذ أسامة وأرسل علي بريد العبد لله الإلكتروني رسالة شرح فيها كيف أن الرحلة التي أتي عليها الدكتور البرادعي كانت تحمل رقما مزدوجا هو«os863and ms9200».
ما يشير للمطلعين علي أنظمة الطيران (ومنهم الزملاء العاملون كمندوبين للصحف في المطار) إلي أنها من النوع الذي يطلق عليه رحلات «المشاركة بالرمز» بين شركتين تعملان علي خط واحد وتتفقان اتفاقا يسمي بالإنجليزية الفصحي «cod-share agreement operating
partner» بمقتضاه يجري تبادل تخصيص حصة من مقاعد طائرة كل شركة، منهما لركاب الشركة الأخري، بمعني أن الراكب قد يشتري تذكرة ـ مثلا ـ من «مصر للطيران» ويشترط موعدا معينا للرحلة فتحجز له هذه الأخيرة علي طائرة الشركة شريكتها التي تقلع في الموعد المطلوب، وذلك هو تماما ماحدث مع الدكتور البرادعي.
إذن.. حكمت المحكمة حضوريا ببراءة المواطن محمد البرادعي من تهمة خيانة «شركة مصر للطيران»، لكن أرجوكم احذروا ولاتطمئنوا فالمحكمة نفسها قد تعود وتدين الرجل لاحقاً بارتكاب جريمة خيانة «شركة مصر» للبترول!!