بعض الناس بارعون جدًا (دون أن نغمط الأميين والخائبين حقهم) في استخدام أقوال الحق لتسويغ وتبرير بطلان فاضح وانحراف واضح وفساد مؤكد، ومن كلمات الحق التي شاعت وتبتذل بشدة هذه الأيام أن النظم الديمقراطية لا تزدهر ولا تعمل بكفاءة دون أحزاب سياسية تتصارع سلميًا وتتنافس وتنشط بين جماهير المجتمع بأفكار وبرامج وعقائد مختلفة، تعكس تنوعه الفكري الطبيعي واختلاف المصالح الطبقية والفئوية بين أفراده وجماعاته.
هذا كلام حق فعلا وهو صحيح نظريًا ومن حيث المبدأ لكن المشكلة (حتي لا أقول المصيبة) تبدأ ملامحها البشعة في الظهور عندما نضعه علي أرض واقع مجتمعنا الراهن ونصارح أنفسنا بالحقائق الآتية :
أولاً: غني عن البيان أننا نتمتع بنظام حكم فريد من نوعه في السوء، ليس فقط لأنه قمعي وفاسد ويمارس بفجاجة سطوًا مسلحًا علي الثروة والسلطة، وإنما تفرده وندرته اكتسبهما من ريادته وإبداعه المتفوق في التدليس والتشويه والتزوير، آية ذلك أنه يكاد يكون النظام الوحيد علي ظهر هذا الكوكب الذي «نشل» كل المظاهر والأشكال والأشياء المعروفة في النظم الديمقراطية الحقيقية وحولها إلي ديكورات مفضوحة ورديئة الصنع، لا تقوي علي ستر جحافل الحرامية والمخبرين الراقدين خلفها أو المتحكمين في أبوابها، وبالطبع لم تكن الأحزاب «الرسمية» استثناء من هذه الظاهرة، حتي تلك القلة القليلة التي تحمل عناوين تيارات سياسية أصيلة وموجودة فعلا في المجتمع (الأسماء معروفة ولا داعي لذكرها).
ثانيًا: وترتيبًا علي الحقيقة آنفة الذكر، فإن الأحزاب «الميري» التي لدينا (نحو 26 حزبا)، وبغض النظر عن السمات المضحكة لأغلبها، فإنها ـ موضوعيًا ـ لا تخرج عن نوعين اثنين لا ثالث لهما، فهي إما مجرد «تراخيص» منحتها الحكومة لحفنة من المجاهيل أغلبهم «حالات» عقلية و جنائية (بعضهم مكانهم الطبيعي تخشيبة سجن الترحيل في الخليفة)، أو أحزاب أضحت أيضا «تراخيص» بعد أن اجتهد أصحابها(أزمنة مختلفة وبدرجات متفاوتة من الصدق والإخلاص) في محاولة قلب اللعب والتهريج إلي جد، لكنهم جميعا اصطدموا بجدار الحظر والحصار الأمني الصارمين، ومن ثم تكسرت محاولاتهم علي صخرة الطبيعة الأصلية للنظام الذي أصبحوا هم أنفسهم جزءًا من لعبته ويدورون معه (باستثناءات فردية قليلة) وجودًا وعدمًا.. بمعني أن وحدة المصير صارت تجمع نخبة الحكم الحالية بالأغلبية الساحقة ممن يحملون رخص المعارضة الرسمية، فلو ذهبت هذه النخبة وضاعت أو راحت في ستين داهية، ضاعوا وراحوا معها فورًا.
ثالثًا: وبسبب هذا الوضع، ولأن المجتمع يحتاج إلي مظاهر مقاومة تؤكد استمراره باقيًا علي قيد الحياة وأنه لم يمت بعد، فإن المعارضة الحقيقية للنظام عبرت عن نفسها (خصوصًا في السنوات الخمس الأخيرة) في حركات وتجمعات ولدت ونشطت خارج منظومة الأحزاب «الميري» القائمة، حتي وإن كانت نسبة غير قليلة من مؤسسي هذه الحركات والتجمعات والناشطين فيها انتموا (أو مازالوا منتمين) لبعض هذه الأحزاب.
إذن.. قولة الحق إن الأحزاب هي فعلا ركن أساسي وأصيل في النظم الديمقراطية، لكن الحقيقة التي نكابدها الآن أننا ليس لدينا لا أحزاب ولا ديمقراطية، فقط تزوير وتدليس وحرامية.. وأي ادعاء غير ذلك باطل ويصب في المجهود الحربي لعصابة القط الأسود!
صباح الخير.