شذوذ الحرية وعفة الطوارئ

سمعنا أن هناك ما يزيد علي مائة توصية أصدرها مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في ختام الجلسة التي خصصها الأسبوع الماضي في مدينة جنيف السويسرية لفحص حالتنا الحقوقية الإنسانية الراهنة التي تصعب علي الكافر، وسمعنا كذلك أن الست الحكومة رفضت فورا ونهائيا وفي التو واللحظة (21) توصية منها، فيما وعدت بـ «درس وبحث» رفض باقي التوصيات لاحقا إن شاء الله، مع أنها كلها تمثل حقوقا سياسية واجتماعية واقتصادية يري العالم المتحضر أن المصريين محرومون من التمتع بها.

وكنت قد أشرت في سطور سابقة إلي الحجة التي تعودت الست الكبيرة التذرع بها واستخدامها بطريقة بغبغاوية في تبرير حرمان الشعب من أبسط حقوقه وحرياته، ونقلت في هذا السياق مقتطفًا من تصريحات الدكتور مفيد شهاب رئيس وفد الست المذكورة أعلاه في اجتماعات المنظمة الحقوقية الأممية والذي تحدث فيها باسم مدام مصر، مؤكدا أن جنابها «رفضت التوصيات التي لا تتناسب مع قيمها وخصوصيتها الثقافية والاجتماعية»، وهي خصوصيات أضاف لها بعد عودته بالسلامة من جنيف ما سماه معاليه ـ حسب المنشور في «الدستور» أمس ـ «الخصوصية الاقتصادية»!!

طبعا هذه الخصوصية الأخيرة التي تميزنا عن سائر خلق الله، واضحة ومفهومة ويكفي لتعرف ملامحها أن تنظر حضرتك حولك وتتأمل قليلا في مظاهر البؤس والحرمان والفاقة التي يتردي أغلب المصريين في نعيمها حاليا، وأن تلاحظ كذلك كيف نتفرد بين سكان هذا الكوكب بنظام حكم يمنح قطعان النهابين والمحتكرين نصيب الأسد من سلطة صنع القرار السياسي والاقتصادي وتفصيل القوانين والتشريعات علي مقاس حرامية الغسيل.

لكني أعود إلي التوصيات الـ 21 التي لم تطق الحكومة صبرا علي إعلان رفضها بحسم وقوة وقبل أن يجف الحبر الدولي الأممي السويسري الذي كتبت به، فمن اللافت للنظر أن أحدا ـ بمن فيهم رئيس وفد الست ومحاميها البليغ ـ لم يتكرم بالإفصاح عن القائمة الكاملة لهذه التوصيات ولم يفدنا أبدا بشرح أوجه تعارضها وتناقضها مع «قيم مصر وخصوصياتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية»، وإنما اكتفي جميع الحكوميين ـ كالعادة ـ بانتقاء توصيتين أو ثلاث فقط منها أبرزها وأشهرها تلك التي تتعلق بما يسمي «حقوق المثليين»، أو هؤلاء الذين أشار إليهم الدكتور شهاب صراحة في تصريحات أخيرة لسيادته بمسمي «الشواذ جنسيا»، وتركنا نفهم أن التوصيات الباقيات علي هذه الشاكلة، رغم أن القاصي والداني يعرف أن القائمة المرفوضة تحوي مطالب من نوع ـ مثلا ـ إنهاء حالة الطوارئ التي نعيش تحت ظلالها الثقيلة منذ تولي الرئيس حسني مبارك السلطة قبل نحو ثلاثة عقود، وكذلك إلغاء بعض مكونات الترسانة التشريعية الرهيبة التي تقيد حريات التعبير والصحافة وتجعل من ممارستنا الحالية لهذه الأخيرة مجرد ممارسة «عرفية» محفوفة بالمخاطر طوال الوقت لأنها غير مقننة ولا محمية ومرهونة بحالة المزاج العالي الذي لو تغير أو تعكر في أي لحظة فإن السجون والمعتقلات جاهزة وعلي أتم استعداد دائما لاستقبال أي عدد من الصحفيين وأصحاب الرأي.

أقول قولي هذا وأنا لا أستبعد احتمال أن تكون الحكومة وأبواقها وخدمها المخلصون جميعا مقتنعين فعلا ولديهم عقيدة راسخة بأن إطلاق حريات التعبير والصحافة بغير قيود والعيش بدون قمع ولا تزوير ولا طوارئ، هو نوع من «الشذوذ الجنسي».. ولا حول ولا قوة إلا بالله.