القراءة عن دنيا المخابرات مثيرة للغاية و تمتليء بحكايات لا يصدقها العقل عما يحدث في الكواليس الخلفية للكرة الأرضية. و قد طالعت مؤخراً كتاباً شديد الإمتاع يروي عن أشهر الجواسيس في التاريخ، و في فصل منه يتطرق إلي الصفقة التي تم بمقتضاها منح الكثير من دول العالم الثالث استقلالاً صورياً بعد أن تم تجنيد الزعيم الملهم بكل منها ليصير هو رجلهم في حكم الدولة و الذي صارت مهمته أن يبلغهم بكل كبيرة و صغيرة تحدث في بلده حتي لا يتركوا شيئاً للظروف. و من المعروف في دنيا الجاسوسية أن لكل جاسوس ضابط مسؤول عنه يتابع نشاطه و يتلقي منه التقارير و يعهد إليه بالمهام، لكن الطريف في الكتاب أنه يقرر أن الزعماء الأشاوس الذين تم تجنيدهم و الذين يهز كل منهم بلده و يزلزلها إذا تبختر لكل منهم ضابط اتصال يتعمدون أن يكون صغيراً في السن، نزقاً، سليط اللسان من أجل إذلال السادة الحكام و حتي لا يصدق أحد منهم الفيلم الذي يعيشه و الذي قد يدفعه إذا ارتفعت الطراوة و بخار الماء في نافوخه إلي نسيان الحقيقة و تخيل أنه زعيم بحق و حقيق. و يمضي الكتاب متحدثاً عن اللغة المتدنية التي يتم بها مخاطبة الزعماء الأشاوس من قبل ضابط الاتصال، و الإهانات التي يتلقونها طوال الوقت و التي تصل الي الشتيمة بالأم و الأب من عيل صغير يستطيع أن يوقظ المسؤول الفخيم في أي لحظة في الليل.. أحياناً بغرض الشغل و أحياناً أخري بغرض التنغيص و الإهانة.
و هذا يدفعنا إلي تصور المفارقة العجيبة التي تحدث علي مستويين متباينين عندما يزور الزعيم الضرورة دولة الاحتلال و يتم استقباله هناك استقبالاً بروتوكولياً عالي المستوي حيث تمد أمامه البسط الحمراء و تعزف الموسيقي السلامين الوطنيين و تتقدم منه طفلة حلوة و بيديها باقة ورد تقدمها لجلالته أو فخامته أو سموه و يتم فتح أحد القصور لإقامته، كما يتم التقاط الصور التي توحي بأهمية الاجتماعات و اللقاءات السياسية التي يعقدها الزعيم..هذا هو المستوي المعلن، لكن هناك مستوي آخر خفي هو الحقيقي و الأصلي حيث يجد الزعيم كفيله القاسي الصغير في انتظاره يقف من بعيد و يتعمد أن يريه نفسه حتي يعمق احساسه بالمهانة و يفسد عليه بهجة الكرنفال الوهمي.
عندما قرأت الكتاب لم أعرف هل أصدق ما جاء به أم أتعامل معه باعتباره كتاباً مسلياً، لكني في كل الأحوال أحسست بعدم غرابة هذا الطرح علي جنوحه الشديد و وجدتني أبتسم و أنا أتخيل بعض غضنفرات العالم الثالث و الشتائم تنهال علي رؤوسهم من رؤسائهم الصغار و هم يتمتمون في ذعر: حاضر يا أفدم..تمام يا أفندم، و تذكرت عبد الرحمن الأبنودي في قصيدته الشهيرة التي ذكر فيها واحداً من هؤلاء قائلاً في وصف سيادته:
"اللي كان بيدّي الكدب من قدام...كان بياخد من ورا"