ليس ثمة ما يؤكد أن المعاناة تثقل الفنان بالضرورة، لكن ثمة ما يؤكد أن المعاناة تهدينا فنانا ناضجا متوهجا.. يملك زخم التجارب ودفقة الألم.. يجتر معاناته، فيهدينا أجمل ما طبعته في نفسه وروحه.. عبد الحليم حافظ وأحمد زكي.. وجهان لعملة واحدة.. مالي أستخدم نفس التعبيرات والمفردات التي تفتخر وتنتشي بوضع الاثنين في جملة مفيدة؟!
ببساطة لأن مسيرتهما ومشوارهما الفني والحياتي، ربط دونما سابق إنذار بينهما.. لا مجال للابتكار عند تناول الشخصين.. نفس شهر الوفاة، وإن اختلف شهر الميلاد.. نفس مكان الميلاد.. نفس اليتم.. نفس الإحباط.. نفس خيبة الأمل.. نفس البدايات.. نفس النهايات.. ونفس البقاء في الوجدان بنفس البريق ونفس الومضة التي توهمنا بأنهما كانا مجرد حلمين استيقظنا منهما، ونعاني حتي الآن من الرغبة في نسيان أن الجسدين رحلا.. يشكلان معا ثنائية عجيبة تأبي إلا أن تستمر هكذا، وتتردد تفاصيلها كلما حلت ذكراهما في مارس الحزين.
هكذا خلق الله البشر.. البعض يبذل قصاري جهده ليفني وينتهي، بينما ومضات خاطفة بذلت قصاري جهدها لتبقي، ولهذا سنتذكرهما دائمًا لنؤكد لهما أن ومضتهما الخاطفة في تاريخ الإنسانية وفي تاريخنا، مازالت متوهجة، وأن مجهودهما لم يذهب سدي، وأن حياتهما الحافلة بالإحباطات والفشل والانكسار والحزن، والتألق والنجاح والانتصار والفرحة، مازالت ملهمة لكل إنسان يمتلك موهبة حقيقية، ويأسًا من تحقيق ما تمني، فليس أجمل من هذين الرائعين أملاً وحافزًا.
سنظل نتحدث عن ثنائية حليم - زكي كلما هل علينا شهر مارس، وكلما دق الربيع علي أبواب السنة، لنتذكر أن حليم وزكي أبهي وأعذب وأصدق فناني مصر، قد ودعا الدنيا في الربيع.. لم يصلا إلي خريف عمرهما.. لم تذبل موهبتهما.. سلما روحيهما إلي بارئهما، وهما في قمة النضج.. بموهبة خضراء كأوراق الربيع، وأجساد لم تحتمل ثقل الموهبة، ففنت قبل أن تذبل مع أوراق الخريف وبرودة الشتاء.نحن بدورنا نؤكد لهما أن أعمالهما أبدا لن تعاني برودة الذكري، فكما كانا دافئين.. ستظل الذكري محتفظة بسخونتها وشوقها إلي من يجدد ما انتهي إليه هذان العظيمان.
حتي الآن مازال حليم وزكي عظيمان يكبران، ومازال كل من يحاول تقليدهما صغيرا قزمًا.. هما - شخصيًا - كانا مجددين، وبالتأكيد كانا سيكرهان كل من يحاول تقليدهما، وطبعا كانا سيشدان علي أيدي من يرغب في كسر القواعد التي سارا عليها، ليسير علي أحسن منها، مثلما فعلا هما مع أسلافهما.. العندليب الأسمر، وفتي الشاشة الأسمر.. يخلق من الشبه اتنين بس، ومن يرغب في أن يتشبه بهما فمصيره بائس جدا، أما من يرغب في تلمس خطوات نجاحهما فقط، فأحفادنا سيكتبون عنه أكثر مما نكتب نحن عن حليم وأحمد زكي.. رحمهما الله وأهدانا بمن ينافسهما علي مساحة الاحترام والتقدير التي يشغلانها في قلوبنا وأرواحنا.