هل هذا معقول؟ أن يظل الرئيس مبارك طوال العام الماضى يركز فى خطاباته على بناء الدولة المدنية وعدم خلط الدين بالسياسة.. وشن هجوماً عنيفاً فى خطابه بمناسبة المولد النبوى الشريف، فى ختام أعمال مؤتمر الفكر الإسلامى العالمى وتكريم الفائزين فى المسابقات - والذى يعقده كل عام المجلس الأعلى للشئون الإسلامية التابع لوزارة الأوقاف.
وتصل تكلفته سنوياً إلى خمسة عشر مليون جنيه لتغطية تذاكر وصول وعودة الوفود وإقامتها وجوائز حفظ القرآن والأبحاث - هاجم الرئيس الذين يخلطون الدين بالسياسة من المسلمين والمسيحيين، بل وهاجم - لأول مرة - الفكر السلفى والقنوات الفضائية التى تروج له، وكان عنف هجوم الرئيس، رد فعل على مذبحة نجع حمادى ليلة عيد الميلاد المجيد، ومقتل ستة من أشقائنا الأقباط وجندى مسلم أمام كنيسة العذراء، مما أحدث صدمة عنيفة أصابت روحنا الوطنية، وأثار المخاوف من تحلل سلطة الدولة وفقدانها هيبتها.
أقول: هل من المعقول بعد هذا الموقف من رئيس الدولة والحزب الوطنى أن يأتى أمين تنظيمه ورئيس لجنة الخطة والموازنة أحمد عز ويتحداه علناً، ويشرك معه البابا شنودة فى تحديه، بأن يخلط الاثنين الدين بالسياسة بتطوع عز بتحويل البابا إلى شريك سياسى مع حزبه، فى بحث ترشيحاته للانتخابات، وفى حالة الحراك السياسى فى البلاد، من وراء ظهر قيادات الحزب؟!
وهذا ما حدث بالظبط، عندما حملت صحف الأربعاء الموافق 5 من الشهر الحالى موضوعاً مثيراً عن استقبال البابا فى مقره بالكاتدرائية أحمد عز، والإثارة هنا ليست بسبب المقابلة وإنما للموضوعات التى بحثها مع البابا.. وتوضح أننا لم نتجن عليه، لأن الصحف القومية - لا المعارضة والمستقلة - هى التى أوضحت ما دار فى الاجتماع وكانت جريدة "الوفد" هى التى سبقت الجميع فى كشف خبر الاجتماع، يوم الثلاثاء والذى حضره عدد من قيادات الكنيسة، بالإضافة إلى هانى عزيز عضو لجنة العلاقات الخارجية بالحزب والمقرب جداً من البابا، وأحد مستشاريه والملاحظ أن تغطيات الصحف القومية اختلفت فى بعض التفاصيل، وإن كانت "الأهرام" الوحيدة التى حرصت على التأكيد بأن عز هو الذى سعى لطلب الاجتماع، ولا أعرف إن كانت تريد اتهامه أنه لم يستشر القيادات الأعلى منه، أم لا، حتى تحمله وحده المسئولية، لأنى لاحظت أن "الأهرام" بالتحديد - اتخذت عدة مواقف سابقة بالنسبة لعز فيها غمز له، بعكس "الأهرام المسائى".. فمثلاً قالت "الأهرام" فى تغطية زميلتنا هالة السيد:
"حسم عز الجدل الذى أثير حول زيارته قبل 10 أيام إلى نجع حمادى، ومقابلته للنائب عبدالرحيم الغول مما دفع إلى غضب بين الأقباط الذين احتجوا على هذه الزيارة ورفعوا لافتات ضد عز، وسارع عز لطلب اللقاء بقداسة البابا، وشرح سبب زيارته إلى نجع حمادى التى جاءت ضمن برنامجه الحزبى لمعرفة ما يدور على الأرض بالنسبة للكوادر الحزبية، وأعطى عز وصفاً تفصيلياً للتطورات التى يشهدها الحزب وبناء الوحدات القاعدية فى النجوع والقرى والمدن، وكذلك الترشيحات والمجمعات الانتخابية لاختيار المرشحين الذين سيخوضون الانتخابات المقبلة سواء لمجلس الشورى أو الشعب، وأشار البابا شنودة إلى أنه يتابع بشكل مستمر الإنجازات المتلاحقة للمهندس عز وتفانيه وحبه لعمله".
أما "الأخبار" فقالت:
"البابا شنودة ناقش مع المهندس عز حالة الحراك السياسى التى تعيشها مصر حالياً فى ضوء الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة، وقد طلب المهندس عز دعم البابا شنودة، وتحديث المناهج الدينية فى مراحل التعليم المختلفة، كما أكد ضرورة المشاركة السياسية للأقباط وتعميق مفهوم وقيم المواطنة".
أى أن عز ذهب للبابا ليقدم له تقريراً سياسياً وحزبياً شاملاً من ذات النوع، والمعلومات التى يتم تقديمها إلى رئيس الحزب، أو المكتب السياسى، أو الأمين العام، أو هيئة مكتب الأمانة العامة لمناقشتها مع العلم بأنه لم يكن ليسمح له فى أى اجتماع حزبى أن يتجاوز حدود اختصاصاته كأمين للتنظيم فقط، أما باقى القضايا التى تدخل فى اختصاصات الأمناء الآخرين، فهم الذين يعرضونها كما كان غريباً أن يناقش مع البابا قضية تطوير المناهج التعليمية رغم أن هذه سلطة وزير التربية والتعليم الدكتور أحمد زكى بدر الذى أرسل بالفعل إلى البابا بهذا الطلب، وهو المسئول عن متابعته معه.. وكان قد تسبب فى أزمة مع شيخ الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية عندما ورط المفتى الدكتور على جمعة فى إسناد مسئولية تطوير المناهج الإسلامية إليه، وعرضه لهجوم من المجمع واعتذار المفتى وتراجعه، وهكذا أصبح للبابا كلمة بفضل عز أى فى تحركات وسياسات الحزب الوطنى، وترشيحاته للأعضاء الأقباط لمجلس الشورى والشعب، وفى حالة الحراك السياسى.. كل ذلك لأن عز أو النظام - ربكم الأعلم - اهتزت أعصابه من هتافات ضده رددها مئات من أشقائنا الأقباط، داخل مساحة الكاتدرائية لأن مظاهرة فى ميدان التحرير، بسبب زيارته لعبدالرحيم الغول، فأسرع يطلب الرضا، ويقدم الشكر لأن البابا استنكر هذه الهتافات، وأعلن عدم رضائه عنها، ولو قارنا موقفه هذا، مع معاركه الطاحنة التى خاضها فى مجلس الشعب ضد وزير الثقافة فاروق حسنى وزاهى حواس الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار بسبب رفضهما إقحام نفسه فى مشروع قانون الآثار وتقدمه باقتراح بالسماح بالاتجار فيها داخلياً، وبمعركته العنيفة ضد محافظ القاهرة عبدالعظيم وزير بسبب هدم بعض الأبراج المخالفة المملوكة لأسرة عضو مجلس الشعب مصطفى السلاب فى عزبة الهجانة وقيامه بضرب الأوراق التى فى يده على الخشب وصياحه.. هذا استغلال للسلطة، لتعجبنا من حالة الخوف التى انتابته من الهتافات ضده داخل الكاتدرائية ولو نحن فتشنا عن الأسباب فلن نجد مبرراً لذلك لو كان هدفه عدم ضياع أصوات الناخبين الأقباط فى الانتخابات وذهابها للمعارضين أو المستقلين، لأن الجميع يعلمون أنها لن تحسم النتائج فى أى دائرة، ولن يتحالفوا مع الإخوان المسلمين طبعاً لإسقاط مرشحى الوطنى.. اللهم إلا إذا كان يخشى من تركيز الأقباط على إسقاط مرشحه عبدالرحيم الغول، بعد أن أظهر دعمه له بزيارته فى بيته.. وبالتالى فستكون ضربة شخصية له.. وشماتة خصومه داخل الحزب فيه.
وأياً ما كانت الدوافع، فقد نسف عز كل دعاوى النظام ببناء الدولة المدنية وعدم خلط الدين بالسياسة، بل أوجد كارثة حقيقية بأن منح البابا سلطة الشراكة فى مناقشة سياسات وتحركات الحزب الوطنى، بينما تم إجبار الدكتور أحمد الطيب على تقديم استقالته من عضوية المكتب السياسى للحزب بعد تعيينه شيخاً للأزهر، لتأكيد الفصل بين السياسة والدين.. فهل سيتم إجبار عز على تقديم استقالته بعد عرضه سياسات الحزب على البابا؟ ربكم الأعلم، لكن الملاحظ أن الرئيس فى خطابه فى عيد العمال يوم الخميس قال فى إحدى فقراته:
"أننى أؤكد مجدداً تمسكى باستكمال ما وعدت به من إصلاحات سياسية ترسخ دعائم الديمقراطية، تدعم دور البرلمان والأحزاب، تعزز استقلال القضاء، وتنأى بالدين عن السياسة".
ولا نستطيع أن نجزم إن كان يرد بذلك على ما قام به عز والبابا معاً، أم لا، لكن السؤال هو:
هل النظام صادق فى إعلانه فصل الدين عن السياسة، أم أنه مسموح لعز والبابا فقط بالدمج بينهما؟!