تعلمنا من الماركسيين أن الثورى مشروع خيانة حتى يموت، والحق أن هذه المقولة الصحيحة تثبت فى حق كثيرين من رموزهم التى قدمت نماذج على خيانة المثقف تفوق أى قدرة على الحصر، بعضهم يستخدم مواهبه لتحسين مواقعه الجديدة فى أحضان الأمن أو فى زرائب وزارة الثقافة، وبعضهم تحول إلى خلايا النظام النائمة فى الأحزاب، وكثير منهم يتخفى فى أردية معارضة سرعان ما تسقط عنهم أوراق التوت التى تدارى عورتهم الأمنية.
خيانة المثقف ليست كأى خيانة، وهى ليست مجرد ردة عما كان يؤمن به وتَقَدمٌ إلى معتقداتٍ أخرى بدت له صحتها، بل هى خيانة على الطرفين، خيانة مزدوجة لتاريخه ومعتقداته، وفى الوقت نفسه إقبال وانحياز إلى كل ما كان بالأمس القريب ضده، وهو إذ يفعل ذلك بإتقان وتفانٍ، يستخدم فيه ألاعيب لا يقدر عليها أصحاب الموقع الذى انتقل إليه، فيبدو أصحاب الموقع القديم أقل شأناً منه وهو الجديد عليهم.
أول ما يخونه المثقف ليست مواقعه القديمة وحدها، ولكنه يخون أول ما يخون دوره المعارض والمعترض والناقد والمنتقد، فإذا به ينتقل من حالة النقد والاعتراض إلى حالة التبرير والتفسير، وما يتبقى له من قدرة على النقد يستخدمها فى نقد الجماعة التى كان ينتمى إليها والأفكار التى ظل يدافع عنها زمنه الأول، فإذا به يستقيل بالكلية من أى عملية نقد تنير الطريق إلى المستقبل، ليتفرغ للنقد المجانى الذى لا يؤدى إلى شىء.
نحن من القائلين بأن خيانة المثقف أشـد ضرراً على الوطن من خيانة السياسى أو حتى خيانة المقاتل، فخيانة هؤلاء من الممكن تصحيح آثارها بقليل من الجهد ولو بعد حين، ولكن خيانة المثقف فمفاسدها أشد خطراً على الوطن، وآثارها أشد وطئاً على عملية التقدم فيه، فهى تنخر فى وعى الأمة، وتبقيه فى القاع لا يقدر إلا على العويل.
المثقف الذى يقدم مصلحته الشخصية على مصالح أبناء بلده هو خائن لنفسه قبل أن يكون خائناً لوطنه، والمثقف الذى يغريه المنصب وتغريه الأموال يبيع نفسه لقاء دراهم معدودة لا قيمة لها فى الحساب الختامى لدوره فى تحسين أوضاع أبناء أمته، والمثقف الذى يضع مواهبه فى خدمة هذا الطرف أو ذاك يعلم أنه يتحول إلى "بلياتشو" يتلون وجهه كل يوم باللون المطلوب، أو هو فى أفضل الأحوال يصبح مجرد "أراجوز" تحركه أيادٍ الآخرين التى تستعمله ولا تحترمه.
فى ظنى أن موقف صنع الله إبراهيم الرافض لاستلام جائزة المجلس الأعلى للثقافة كان فى جوهره صرخة فى وجه هذه النوعية من المثقفين أكثر منه رفضاً لجائزة تشرف عليها وزارة الثقافة وتسخرها لأهدافها، فالوزارة لم تدارِ موقفها، بل حددت دورها ووظيفتها فى إدخال المثقفين فرادى وجماعات إلى حظيرة الدولة، وهى إذ أعلنت ذلك لم تعاود التفكير ولو لمرة واحدة فى استخدامها لكلمة "الحظيرة" فالكلمة مقصودة، ولها دلالة مستهدفة، هنا فى قلب الحظيرة يرقد المثقفون الذين خانوا أنفسهم، ولا يليق بهم غير لفظ "الحظيرة" تجمعهم على موائد ما تُرك لهم من فتات وفضلات تفضل عليهم بها معالى صاحب الحظيرة.
ولقد كان لافتاً للانتباه تزاحم كثير من الكتاب والمثقفين حول صنع الله إبراهيم بعد أن انتهى من إلقاء بيانه برفض الجائزة، وكان من بينهم بعض هؤلاء الذين جرى إدخالهم الحظيرة، وفى لحظة صدق مع الذات، أو قل لحظة إفاقة عابرة، وقع هؤلاء على بيان يدعم موقف صنع الله، ولكنهم سرعان ما تراجعوا عن بيانهم بعد قليل من الضغوط وقليل من الإغراءات، فكتب بعضهم يهاجم صنع الله وموقفه، ربما ليس طمعاً فى موقع أفضل فى الحظيرة بقدر ما هو رفض لأى محاولة لإفاقتهم من رقادهم الطويل فيها.
كنت أقول ومازلت أؤكد أن خيانة المثقف ملة واحدة، لكن أسوأ أنواع الخيانة تلك التى يأتيها المثقف مع أعداء أمته التاريخيين تقرباً وزلفى من رعاته المحليين، فتجد الواحد من هؤلاء وقد نفض من قلبه وعقله كل ما تعلمه وعَلِمه باليقين حول أعداء الوطن، وهذه ليست خيانة لدور المثقف ووظيفته فقط، بل هى فى الصميم خيانة للوطن الذى يتغنى به ليل نهار.
من يقرأ تاريخ البشر ويستقرئ كيفية قيام الديكتاتوريات واستبدادها برقاب العباد سيكتشف أنها قامت على خيانة المثقفين، وما بين مثقف خائن ومثقف صامت تضيع من بين أيدينا القدرة على صناعة المستقبل.