عدد الرسائل : 17047 الموقع : جريدة الامة تاريخ التسجيل : 24/09/2008
موضوع: هل يعيش المسلمون اليوم خارج الزمان؟ الأربعاء 23 يونيو 2010 - 0:31
تتعدد جوانب الإشكالية في طريقة تفكير المسلمين اليوم بأزمتهم وبالسبيل الأنسب للتعامل مع تلك الأزمة . لكن هناك مشكلةً أساسية تتمثل في أننا كمسلمين نظن أنه بما أن الإنسان المسلم يطبِّقُ وحي الله سبحانه وتعالى وبما أن الله مطلقٌ وغيبيٌ فهو – أي ذلك الإنسان المسلم - أيضاً يتحرك في نطاقٍ شبهِ مطلقٍ أو شبه غيبيٍ ولا يتحرك في حدود الزمان والمكان . والنتيجة المنطقية لهذا إذاً أن نعتبر أن ذلك الإنسان خارج الزمان والمكان بما أنه يتعامل مع الوحي ، وهذا مبدأٌ خطيرٌ جداً يجعلنا دائماً في ذبذباتٍ بين التشاؤم والتفاؤل ، نتفاءلُ لأننا نظن أننا خارج قوانين الزمان و المكان وأننا لذلك سنصلُ حتماً إلى ما نريد بقوةٍ مجهولة ، ثم نصطدمُ بالواقع ونجد أننا محكومون بالزمان والمكان فنتشاءمُ ونيأسُ ونظنُّ أن الله قد تخلى عنّا أو أن ثمة خللاً موجودٌ ولانعرف ماهيته . والخلل في الحقيقة إنما يكمنُ في تصورنا للإنسان وطبيعة وجوده في هذا الكون . هل يعيش في فراغٍ ؟ أم أنه يعيش في زمانٍ ومكانٍ معينين وقد استخلفه الله على الأرض ليعيش محكوماً بقوانين معينة كرّرَ سبحانه ذكرها في آياته لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا و َا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا وقد تكررت في القرآن ضمن حوالي ستة أو سبعة مراتٍ غير ما يندرج في المعنى بألفاظ أخرى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَـادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْـهِ و إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ . والمقصود أننا لا نفهمُ الإنسان في حدود الزمان المكان ، وإن فَهِمناهُ نفهمهُ بشكلٍ جزئيٍ وليس بشكلٍ كلي . فمثلاً نفهم أن الإنسان الفرد قد يضطر مرةً لأن يأكل الميتة أو لحم الخنزير أو يشرب الخمر للتغلب على العطش وحفظاً على الحياة ، ولكننا لا نتصور نوعاً من الضرورة بالنسبة للحالات الاجتماعية . ونتصور أن الضرورات التي تبيح المحظورات هي فقط ضروراتٌ على الفرد وليست ظروفاً اجتماعيةً عامة . ويرحم الله الجويني وغيره عندما قالوا أن الحاجة الجماعية بمنزلة الضرورة الفردية في إباحة المحظور . والفقه المالكي مليءٌ كما نعلم بمعالجة النوازل ، وإن كان الفقهاء قد اعتقدوا أن النوازل محدودةٌ بحدود الزمان والمكان لأنهم لم ينظروا إلى المعنى بإطلاق . وكذلك فإن عموم البلوى موجودٌ عند الأحناف ولكنهم أيضاً يعتبرون عموم البلوى كأنها حالات فردية ولكن تتكرر عند مجموعة من الناس . وما يجب أن ندركه أن علم الاجتماع القانوني عندما يتحول إلى علم اجتماعٍ فقهي ينظر إلى هذه القضايا كأنها حالاتٌ عامةٌ تُصادِفُها المجتمعات ولابد من معرفة أطوارها إن أمكن تنظيرها وتقنينها مسبقاً أو تحليلها ومتابعتها حين تحدثُ بحيث نستفيد منها العبرة للتنظير في المستقبل . المشكلة الثانية تنتج من ظننا بأنه ما دُمنا نتعامل مع دينٍ أتى من عند الله الذي هو غيب الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فإننا نعتقد أننا نتحرك في خارج نطاق اللعبة الإنسانية - إن صح التعبير – الأمر الذي يسوقنا إلى الحديث في شئٍ آخر يتعلق بمسألة الثابت والمتغير . فبما أن دين الله وحيٌ والوحي ثابتٌ ، وبما أن هذا خاتم الأديان وليست هناك قابليةٌ للإضافة عليه أو استبداله ، لهذا كله فإننا ننظر إلى الثبات كأمرٍ طبيعيٍ في هذا الدين ، ويمتدُّ اعتقادنا بهذا الثبات إلى كل ما يتعلق بالدين ، حتى في جزئياته وفروعه ، بدل أن يقف عند كلياته وأصوله ومقاصده العامة . وبالتالي فإننا لا ندرك أن من طبيعة الدين الأساسية قابلية التعامل مع التغير ، بل وأن مرونة التحول والتغير تنبع من داخله لأنه لن تأتي شريعةٌ أخرى تُفسحُ المجال للتعامل مع المتغيرات التي تطرأ على الواقع البشري ، كما أن الفكر الإنساني لا يستطيع أن ينقض الدين ككل ، ولكل هذا فإن الدين أتاح من خلال دينامياته ومن خلال حركياته وفعالياته الداخلية الفرصة للتغيير الداخلي إلى أبعد الحدود . والجدير ذكره هنا أن قضية الثابت والمتغير مختلفةٌ عن قضية الناسخ والمنسوخ لأن الناسخ والمنسوخ إنما يكون في النصوص . أما الثابت والمتغير فهو في الفهم ، ولذلك قد يفهم جيلٌ معينٌ أو تفهمُ بيئةٌ معينةٌ النص فهماً معيناً ويفهمه الآخرون بطريقة أخرى مختلفة . وكثيرٌ من المُطلقات ومن الأمور المعنوية تشير إلى هذه الحقيقة مثل تعريف التَّرف ، فالقرآن نعى على الترف والمُترفين لكننا عندما نُعرِّف الترف فإن تعريفنا له يختلف باختلاف الزمان والمكان . وكذلك الأمر بالنسبة للشورى ، فالشورى مفهومٌ عامٌّ أيضاً لكن تحديد الوسائل لتطبيق الشورى تتغير باختلاف الزمان والمكان . فالناسخ والمنسوخ إذاً قضيةٌ مختلفةٌ عن قضية الثابت والمتغير ، فالثابت والمتغير قد يكون في نصٍ مُحْكَمٍ ، بل ومقطوع بأنه محكم وليس فيه مجال للاجتهاد ، ولكن فهمه يختلف باختلاف ظروف الزمان والمكان . وأضرب على هذا الأمر مثالاً أكثر وضوحاً ألا وهو الرِّق ، إذ لا يوجد مسلمٌ اليوم يقول أن الرق مباح ، وهذا الحكم مأخوذٌ من كليات ومبادئ أصولية كثيرة وظَّفها المسلمون لتقريره والوصول إليه. ولكن هذه الكليات والمبادئ كانت موجودة في زمن الفقهاء السابقين فلماذا لم يصلوا لنفس النتيجة ؟ إن الجواب يكمنُ في إدراكنا نحن لمتغيرات عديدة أثَّرت في فهمنا لنفس النصوص ، وبالتالي في استنباطنا لحكمٍ مختلف . الأمر الذي دفعنا إلى أن نأخذ من تلك المبادئ مثلاً أن القرآن شرع العتق ولم يشرع الرق ، وأنه شرع تحسين حال الرقيق حتى يصبح الرق لا معنى له ، وبذلك يتحول العالَمُ – تدريجياً – إلى إلغاء الرق فعلاً بعد أن يُلغى حُكماً كما قال تعالى إخوانكم خَوَلكم ، وكما قال الرسول فليطعمهم مما يطعم وليلبسهم مما يلبس ولا تكلفوهم مالا يطيقون فإن كلفتموهم مالا يطيقون فأعينوهم و لا يقل أحدكم عبدي أو أمتي بل فتاي و فتاتي فالشاهدُ إذن أننا يجب أن نُسلِّمَ بأن هناك ثباتاً و تغيراً ، بحيث يكون النص ثابتاً و الفهم متغيراً . إن أهمية هذه القضية تكمن في أنها مقدمةٌ أساسيةٌ في الإصلاح ، لأنه ما لم نحدد منهجنا في فهم النص الذي نريد أن نطبقه فإننا سنظل ندور في فراغ ونحن نحاول أن نوفِّقَ بين الجزئيات ، ولكن الفهم الكلي المنهجي لحقيقة الإصلاح الإسلامي سيظل غائباً إذا لم يتضح في أذهاننا أن الأصل في هذا القرآن أنه أوحي به للأبد وللعالم ، ولكن الله سبحانه اختار ظرفاً معيناً وبيئةً معينةً لأوَّلِ تنفيذٍ لهذا الكتاب ، واختار رسولاً معيناً لأول تطبيقٍ لهذا الكتاب ، فيترتب على فهمنا للثابت والمتغير معرفة الرسول ومعرفة سيرة حياته. ومع ذلك فلا بد أيضاً من معرفة البيئة العربية ومدى اختلافها عن بيئتنا الآن ، وكيف كانت مقومات البيئة العربية مساعدةً لتطبيق الإسلام ، وكيف تفاعلت المبادئ الإسلامية مع واقع البيئة العربية . لاسيما ونحن نرى اليوم أن البيئة العربية أصبحت بين نقيضين ، بين من يُقدِّس العروبة لدرجة القول أن الإسلام ظاهرةٌ عربية ، وبين من يرفض البيئة العربية تماماً ويقول أن الإسلام فعل معجزةً وحوّل القوم من النقيض إلى النقيض . رغم أن من المعروف أن البيئة العربية لم يكن فيها كهنوت و لم يكن فيها مَلَكيةٌ مطلقة ، وكان هذا في صالح إقامة النظام الإسلامي والإصلاح الإسلامي ، بل إنه كان فيها موافقاتٌ كثيرة لصالح الإسلام فالله أعلم حيث يجعل رسالته ، وهو سبحانه الذي اختار رسولاً واختار بيئةً مناسبة لهذه الرسالة . ويترتب على هذا العرض مسألةٌ أخرى ، تلك هي مسألة الخير المحض والشر المحض التي تتقاسم العقل المسلم الذي لا يرى – فيما يبدو – إمكانية اختلاط الخير بالشر . ففي مثالنا السابق المتعلق بالبيئة العربية نجد أنه كان فيها مساوئ وفيها إيجابيات ، تماماً كما هي بيئتنا الآن فيها مساوئ وإيجابيات . وكذلك على مستوى تاريخنا الذي اعتاد العقل المسلم على التعامل معه بعقلية القبول المطلق أو الرفض المطلق ، فحتى في تجربة الفتنة وأحداثها – مثلاً - نطرحها على أنها خيرٌ محض ، ونعتذر عما يبدو مصادماً لمبادئ الإسلام و مصادماً لعقولنا ونعوِّدُ أبناءنا على قبول الأحكام المطلقة التي تَقبَلُ القديم بكل ما فيه سواء كان ذلك القديم فعلاً أو قولاً .. أو نرفض ذلك التاريخ بدعوى أنه تاريخ ملوك وتاريخ خلافات وقتال وتوسعات وفتن .. ولا نعرف أن الخير والشر مختلطان في طبيعة البشر . وكذلك الأمر فيما يتعلق بالأنظمة المعاصرة التي يختلط فيها الخير والشر ، تماماً كما يختلط في تراثنا الخير والشر ، أو بتعبيرٍ آخر - لكي نترك موضوع النيات – نقول أن اختلاط الخطأ والصواب في تراثنا التطبيقي أو تراثنا الفكري وكذلك اختلاطهما في التجارب الحالية أمرٌ لا يستطيع أحدٌ إنكاره .. و الخلاصة أن البعد الزمني مفقودٌ في تجربتنا الفكرية والعملية الإسلامية ، رغم أن البعد الزمني أساسيٌ في فهم التجربة الإسلامية والخبرة الإسلامية والتطبيق الإسلامي الأول لكي نستعين به في التطبيق الإسلامي الحالي والإصلاح الإسلامي الحالي . ولذلك يصبح من أهم الأمور أن نتعرف أيضاً على زماننا وعلى ظروفنا و واقعنا المعاصر ونحن نتعامل مع كثيرٍ من القضايا المهمة والتي حصل تغييرٌ كبيرٌ اجتماعي واقتصاديٌ متعلقٌ بها . فعندما نقول – مثلاً – بتعميمٍ كامل أن على المرأة أن تجلس في المنزل وترعى الأولاد وأن هذا مهمٌ جداً وأهم من أي عمل آخر في المجتمع و كذا و كذا .. فإننا نتجاهل حقيقةً اجتماعية تتمثل – في كثيرٍ من المجتمعات – في ضرورة وجود دخلٍ معينٍ لتعليم الأولاد وقضاء أساسيات أخرى لم تكن موجودةً في الماضي ، ونتجاهل أن كل هذا له كلفة ويحتاج إلى إيراد وأن هناك من لا يستطيعون تأمين ذلك الإيراد إلا بالتعاون بين الزوجين على هذه الضرورات .. فهنا نجد أن البعدين الزماني والمكاني سقطا من نظرنا بحيث أصبحت الأمور مسطّحةً ومختلطةً إلى درجةٍ كبيرة . وهذا يؤدي إلى إحباط لأننا كلما ظننّا أننا اقتربنا من التطبيق الإسلامي نجد أننا قد ابتعدنا عنه . أما الاقتراب فإنه يأتي من ناحية أن أناساً كثيرين تأكدوا من فشل التجارب الأخرى و صاروا يُقبِلون على الإسلام ، ولكن الابتعاد يحدث عندما نحاول أن نقدم الإسلام بصورةٍ تطبيقية ، فيأتي الإخراج مشوهاً إلى حدٍ بعيد . ولا يزال يحدثُ أن تكون هناك جهاتٌ إسلامية تقول الكثير وتَعِدُ بالكثير قبل وصولها إلى سلطةٍ معينة مهما كان حجمها ، حتى إذا ما وصلت إلى تلك السلطة لم تستطع تطبيق القول ولا الوفاء بالوعد ، بعد أن أصبح أهلها محكومين بظروف كانوا يظنون من قبل أنهم معافون أو معصومون منها بحكم كونهم مسلمين ، أو أنه لمجرد كونهم مسلمين فإن كل الأمور ستسير لصالحهم وسيكون التطبيق سهلاً جداً عليهم ، وما ذلك إلا لأنهم غفلوا عن البعد الزمني بشكلٍ كبير . وما أعتقده أن هذه مشكلةٌ أساسية ، و هي مشكلةٌ منهجيةٌ ومشكلةٌ حركيةٌ وليست ترفاً فكرياً ، وسنظل نُصابُ بالكثير من الإحباطات إذا لم نعرف الوضع الصحيح للإنسان المسلم في ظروف الزمان والمكان . وإذا صحّ أننا نتكلم عن الجاذبية الأرضية وأننا محكومون بها كجاذبيةٍ فيزيائيةٍ مادية فإن هناك جاذبيات وقوانين أخرى أساسية لا تتعلق على الإطلاق بكونِنَا فُضلاءَ أو سيئين أو أننا نقاوم أو لا نقاوم.. وقد كان ابن خلدون رائعاً عندما قال إن الأمر الشرعي لا يتعارض مع الأمر الوجودي ، وهو الذي وضع خطاً كبيراً تحت ما يُسمى بالأمر الوجودي ، لأن الناس يظنون أن الأمر الشرعي معلقٌ بالفضاء وأن الله قضى بهذا الأمر ، ولذلك فإنه – سبحانه - إذاً سيساعد أي إنسانٍ يعمل على تنفيذه مهما تكن ظروف الزمان والمكان ، وبغض النظر عن جهد وقدرة ومعرفة ذلك الإنسان ، وبحيث تصبح بتلك النظرة العجيبة كل ظروف الزمان والمكان ملغاة . ولكي يدافع ابن خلدون عن رأيه فإنه ذكر أموراً كالعصبية والحاجة إلى قوة تحمي الفكرة .. وما إلى ذلك . وهنا ربما يسأل العقل المسلم: كيف يكون هذا؟ أليس الله بقادر على حماية الفكرة من غير عصبية؟ والجوابُ أنه قادرٌ طبعاً لكنه – سبحانه – خلق سنناً ونواميس في هذه الأرض التي استخلف الإنسان فيها ، و التي عليه أن يعمل ليعمرها ، و جعل هذا الإنسان محكوماً بها رضي أم لم يرض ، وعليه أن يطبق شرع الله وأوامر الله ودعوة الله متفاعلاً مع إمكانات الزمان والمكان التي يتداخل فيها الخير والشر . ولذلك قال سيدنا عمر بن الخطاب : "ليس العاقل من يعرف الخير من الشر ولكن العاقل من يعرف خير الشرين" .