عمر حسين
عدد الرسائل : 98 تاريخ التسجيل : 04/07/2010
| موضوع: فصل من رواية أثر النبى لمحمد أبو زيد الإثنين 19 يوليو 2010 - 7:09 | |
| كنت قد أنهيت السنة الأخيرة لى فى الجامعة، وبدأت رحلة البحث عن عمل، عندما عرض على حجازى أن أعمل معه فى محل عصير محمدين بشارع حسن محمد بفيصل: ـ تاخد فلوس حلوة، وتشوف بنات ع الفرازة لم يفهم حجازى شيئا من كلامى الذى طال، حتى أصابنى الملل، عن المستقبل، عن الأحلام، عن أشياء لم أعد أذكرها ولا أريد.
حجازى الذى استقبلنى منذ أربع سنوات فى محطة باب الحديد، أدرك أننى تغيرت، لم أكن وقتها أعرف ماذا أريد، هو نفسه تغير، لم يعد حجازى " بتاع زمان"، كما قلت له، لم يعد يحكى عن أصدقائه: حسن الأسمر وحمدى باتشان، وشقيقه من الأب أميتاب باتشان، كما كان يقول.
الشيخ حجازى، الذى عرفته طفلا، حلق لحيته وشاربه، لبس خاتما ذهبيا حوالى 3 جرامات بفص أزرق كبير فى بنصره، حين اتصل بى عرفت أنه يعمل فى مجال التمثيل، ويشوف أحمد زكى وعلا رامى وأيضا كمال أبو رية، وعرف أننى يجب أن أسكن فى القاهرة بعد شهرين، لأن الدراسة الجامعية ستبدأ، ولن أتمكن من السكنى فى المدينة الجامعية.
بعد شهرين إلا يوما واحدا وجدته ينتظرنى فى محطة باب الحديد، اخترق بى القاهرة، لتصافح الملامح التى أدمنتها فيما بعد ابتداء من دار السلام والمطرية والحلمية وغمرة.
مشينا من محطة البحوث حتى منتصف شارع ناهيا، وأنا أرمق ابتسامة فخر، تليق بمرشد سياحى عاش فى بلاد البندر، على شفتيه، وهو يمسك يدى لنهبط السلم الكهربائى فى المترو.
فى شارع متفرع من ناهيا، لا أذكر اسمه الآن، فى بيت من ثلاثة أدوار، فى حجرة علوية أمامها منشر غسيل لأصحاب البيت سكنت معه.
يخرج حجازى ويتأخر طويلا، يتركنى واقفا وحيدا على السطح، يقول إنه ذاهب إلى الاستوديو لأن عنده تصوير مع عبد المنعم مدبولى فى فوازير عمو فؤاد، أهز رأسى بالموافقة والمعرفة، وأنا أدرك أنه يعمل مع نقاش فى شارع مجاور، لم أسأله مرة كيف يكون ممثلا ورغم ذلك يسكن فى حجرة بأربعين جنيها؟!، تصير عشرين بعد أن أدفع أنا النصف، خالية من الأثاث إلا من بطانية قديمة مفروشة على الأرض بدلا من السرير، وصورتين كبيرتين لبروس لى وحكيم على الحائط، كان يعرف أننى متواطئ معه فى كذبته، وأننى لن أفضحه فى البلد عندما أعود فى الإجازات.
يحاول حجازى أن يقنعنى بالعمل معه كومبارس فى أوقات فراغى، فأجرة اليوم الواحد تمثيل 15 جنيها، يذكرنى بالفيلم الذى ظهر فيه بظهره، أو بالمسلسل الإذاعى الذى كان يقوم فيه بدور (ضجيج فى المقهى).
سيحاول إقناعى بكتابة خطاب لأهله فى البلد، لا يظهر فيه الكذب بقدر الإمكان، نبشرهم بمستقبل قد يكون، ولا يربطهم أمام التليفزيون فى انتظار المسلسل الذى لن يظهر فيه، أن أقنعهم أن أفلامه التى يقوم ببطولتها توزع فى الدول العربية فقط، لأن الخليجيات يحببن طلته، خطاب يحاول إقناعهم بإرسال بعض النقود حتى يظهر بمظهر لائق أمام عادل إمام ووحيد سيف وسيد زيان، خاصة بعد أن اشترى ـ حجازىـ بدلة سوداء من الوكالة بثلاثين جنيها، واستطاع أن يخفى الرتق أسفل الجيب بلصق بادج أزرق.
بعد أن أنتهى من الخطاب، علينا أن نتمشى فى الشوارع قليلا، يمسك لسانه قليلا عن ذكر حكاياته الخرافية فى التمثيل أمامى، وأمنع نفسى عن إظهار الشفقة عليه أمامه، نعود قبل السابعة ليلحق ميعاد مروة بوجهها الطفولى وليمونتا صدرها اللتان لم تنضجا بعد، وهى تنشر على السطح، والتى سيؤكد لها أن فيلمه القادم سيكسّر الدنيا، فيما أجلس خلف الباب الخشبى أرمقهما ولا أتكلم.
سيحاول حجازى فى المرات القادمة أن يؤكد لى أنه سيستطيع بالفعل أن يصبح أحد نجوم السينما، لكن رسوبه فى اختبارات معهد السينما الذى حاول الالتحاق به أكثر من مرة لم يشفع له، وقراءته الخاطئة لهاملت شكسبير أكدت لى أننى سأستيقظ ذات صباح ولن أجد ملابسه ولا صورتى بروس لى وحكيم على الحائط، فقط سأنتظر مروة عندما تصعد لتلم الغسيل بعد المغرب لأسلمها ورقة تركها بين خشبتى الباب.
تصرف حجازى كبطل فى فيلم عربى قديم، أثقلته الهزائم، فجمع ملابسه وصور أبطاله واختفى، ربما يكون قد شعر أنه بطل حقيقى ـ لأول مرة ـ فى فيلم، وترك رسالة لحبيبته، لكنه لم يعدها بشىء.
سأكمل أنا السيناريو، سأدفع الإيجار وحدى حتى أجد شقة دار السلام فأنتقل إليها ربما هربا منها، ومن هزائم حجازى إذا حدثته نفسه بالعودة.
عندما قابلته بعد أن أنهيت سنواتى الدراسية عرفت أنه عاد مرة أخرى إلى حجرة بولاق الدكرور، وسيخطب مروة، وأرانى خطابا منها، كُتب فى ورقة مقطوعة من أجندة "شركة المقاولات لصاحبها السيد الضوى سنة 1993"، وفيه إجابة عشرين سؤالا، فى الأخير قالت إنها لا تحب ولن تحب أحدا لأن "قلبها انجرح مرة، أوبمعنى أصح سلمت قلبى مرة لوحش خاين، فمش ممكن هسلم قلبى تانى، وعلى فكرة: مش بقصد اللى ف بالك، إنما قصدى إن الحب ضعف ضعف ضعف، وأما رأيك فى إن صاحبة الأجندة أجمل إنسانة رأيتها فى حياتك، فأنت بتجامل، لأنه لو كان صح ما كنتش غلطت، وعموما أنت عارف وضعك كويس فى قلبى والسلام ختام وليس بين الأحباب ختام"، ورسمت قلبا يخترقه سهم برأسين وكتبت فى الناحية اليسرى: ريرى.
لم أخبره أن الخط المكتوب به الخطاب خطة، ولا أن مروة عزلت مع أهلها إلى عزبة النخل وتزوجت شخصا عائدا من الكويت أعجب بنهديها، ووظف أخوها فى مصنع الرشيدى الميزان بالسيدة زينب.
لم أسأل حجازى عن السينما، لكنه تطوع وطلب منى أن أكتب خطابا جديدا ـ بأسلوبك الحلو ـ إلى أهله نكذب فيه كذبات بيضاء جديدة.
* تصدر قريبا عن دار شرقيات بالقاهرة
| |
|