ندما تتجول فى أحياء العتبة والموسكى والحسين وخان الخليل، ستشعرك الحركة
الحيوية الدائبة بأنك وسط أسواق مزدهرة اقتصادياً، لكنك ستشعر فى نفس الوقت
بأن هذه المناطق مهددة بقنابل موقوتة يمكن أن تنفجر فى لحظات، لتعيد إلى
الأذهان سيناريو سوق التونسى، أو سوق الجمعة.
اليوم السابع رصد، فى 6 ساعات فقط من التجول، قرابة 215 مصنعاً ومسبكاً
للذهب والفضة، بالإضافة إلى العشرات من أسطوانات الغاز، وكابلات الكهرباء
المنتشرة عشوائياً بالشوارع والحارات الضيقة، وهى كفيلة لتحويل أحياء
القاهرة الفاطمية إلى قطعة من اللهب فى لحظات.
عدسة اليوم السابع توجه إلى أسواق العتبة والموسكى وخان الخليلى وعبد
العزيز والحسين، ومنطقة المسابك وحارة أبو طاقية ووكالة البلح، لرصد
المخاطر التى قد يتعرض لها العاملون وبضائعهم، فى محاولة منا للتنبيه، ومنع
تكرار كارثة التونسى.
بدأت الرحلة من منطقة خان الخليلى الأثرية، وحاولنا التعرف على وسائل
الأمان، ورصد المقاهى والمطاعم المكتظة بالمرتادين، مصريين وأجانب، وتوقفنا
عند مقهى "الفيشاوى" وهناك لخص العاملون بالمقهى خطورة الحرائق قائلين
"على ما تيجى المطافى هنا تكون العملية خربت"، مبررين ذلك ببعد وحدة
الإطفاء عن المنطقة، وبضيق الحارات والشوارع، الأمر الذى يساعد على تضاعف
الخسائر، وأشاروا إلى أن طفايات الحريق وحدها لا تكفى لمواجهة لهيب النيران
حال انفجار كابلات الكهرباء، مثلاً، أو أسطوانات البوتاجاز، ومن ثم فإن
خسائرها البشرية والمادية تكون كبيرة.
وعند عمارات شويكار، التى تتوسط منطقة خان الخليلى السياحية، توقفت رحلتنا
لبضعة دقائق، وشربنا الشاى عند "عم حسن".. وكانت أسطوانات الغاز الخاصة به
منتشرة، مثل أسطوانات الآخرين، وسط العقارات والمحلات.. عم حسن قال إنه
يعمل فى هذا المكان منذ فترة، ولديه أسطوانة إطفاء واحدة، وصفها بأنها
كفيلة لإطفاء أى حريق يندلع، وهو ما رفضه البعض بسبب وجود محلات الأقمشة
والبازارات المهددة بالتآكل فى أى وقت.
داخل الحارات الضيقة شممنا الروائح الطيبة المنبعثة من محلات العطور، وهى
وفق السكان تمثل خطورة كبيرة لما فيها من مواد قابلة للاشتعال.. بعض أصحاب
هذه المحلات نادى علينا من أجل التسوق، وعندها سألنا عن سبل حماية أنفسهم
والعاملين معهم، خاصة بعدما شهدت منطقتهم حريقاً فى مجمع الشاى بمنطقة
العهد الجديد.. أصحاب محلات العطور كشفوا عن توفر وسائل الإطفاء لديهم،
لكنهم أضافوا بأنها ليست كافية لمواجهة أى حريق، فضلاً عن بعد وحدات
الإطفاء عنهم، مشيرين إلى أن أقرب وحدة إطفاء تقع فى الجبلية، وأن تحرك
عربات الإطفاء مهما كانت سريعة فإن الحرائق تكون أسرع اشتعالاً.
حين اقتربنا من منطقة المسابك، المزدحمة بمحلات الذهب والمجوهرات والفضة،
التقينا "خالد" صاحب مسبك ذهب وفضة، فكشف عن معلومات تنذر بكارثة حقيقية،
وتهدد وسط القاهرة بانفجار يصعب السيطرة عليه، بالإضافة إلى تهديد مستقبل
صناعة الذهب والفضة فى مصر، وأكد أن الضحية ستكون ليس فقط عشرات الآلاف من
البشر، وإنما مليارات الجنيهات، لأنها ستقضى على "بؤرة تصنيع الذهب
والفضة".
خالد قال إن المنطقة بها حوالى 15 مسبكاً و200 مصنع لصناعة الذهب والفضة،
فضلاً عن أسطوانات "الألمونتان" التى تعمل بالغاز والكهرباء، وقال إن أصغر
مصنع يستخدم 6 أسطوانات من الحجم الكبير، وأنه رغم وجود طفايات داخل هذه
المصانع والمسابك، إلا أنه لا يوجد أمان على العاملين والسكان، مبرراً ذلك
بعدم قدرة قوات الدفاع المدنى فى السيطرة على أى حريق يحدث بسبب ضيق
الحارات، واصفاً انفجار أسطوانة واحدة بالكارثة، لأنها ستأخذ معها أسطوانات
هذه المصانع والمسابك الملاصقة لبعضها البعض.
وأوضح خالد أن معظم العاملين بالمنطقة "بيموتوا من الخوف بعد اللى حصل فى
سوق الجمعة، وبعد خراب بيوت مئات من التجار البسطاء ومعهم أسرهم"، مضيفاً
"نفسى جميع الناس اللى شغالة فى الأسواق تمشى فى مظاهرة ضد الحكومة اللى مش
موفرة لنا أمان، واللى معملتش حاجة للناس المتضررة دى"، مؤكداً "إحنا
بدأنا نخطط لمظاهرة ضد الحكومة بسبب الضحايا أو نتوقف عن العمل يوم واحد
عشان نوصل رسالة للحكومة لمساعدة البشر وسط الحياة الغالية دى".
ومن المسابك وحارة أبو طاقية، إلى مطاعم الكشرى والمسامط والمكرونة أم كبدة
والفول والطعمية، فى الموسكى والعتبة، والتى اصطفت "أنابيب" أصحابها فى
الشوارع بجوار محلات الأقمشة ولعب الأعياد والأفراح من متفجرات وصواريخ، فى
مشهد يرسم سيناريو الخطر الداهم على أكبر أسواق القاهرة من حيث البضائع
والحركة.
أصحاب المطاعم "المتحركة" بالشوارع أكدوا أنهم مخالفون، وأن "البلدية" تمر
عليهم ثلاث مرات فى اليوم، قبل العصر والمغرب والعشاء، لكنها لا تراهم
لأنهم يختفون فى لمح البصر، وحين اتهمناهم بتهديد الآخرين علقوا بعبارة
تقول "طول ما صاحب المال واقف بيحرس ماله مش هاتحصل حاجة أبداً"، فيما كشف
أصحاب المحلات أن هيئة الدفاع المدنى تمر مرة كل شهرين لتغيير الأسطوانات
فقط، وأنها تشترط عند ترخيص المحلات الجديدة تركيب خرطوم المطافى لكنها
تترك المحلات القديمة.
يتميز شارع عبد العزيز بمحال ومخازن التليفونات المحمولة، ويصفها البعض
بأنها "اللوبى" الأول لتجارة المحمول فى مصر.. ويتخوف أصحاب المحلات هنا من
تعرض المنطقة لكارثة محققة إذا ما اندلع حريق، بسبب تراكم البطاريات
الخاصة بأجهزة التليفونات، لأن هذه البطاريات تحتوى على مواد كيميائية
سريعة الاشتعال.
أصحاب المحال كشفوا عن تأجيرهم لمعظم الوحدات السكنية الموجودة بالمنطقة
كمخازن إكسسوارات المحمول، وهى تحتوى على مواد بلاستيكية سريعة الاشتعال،
بالإضافة إلى أن معظم مكوناتها تشتمل على عناصر كيميائية تساعد على تأجيج
الحرائق، وأشاروا إلى بطء تحرك الدفاع المدنى ووحدات الإطفاء لاحتواء
الحوادث، خاصة فى الأزقة والحوارى الضيقة، لافتين إلى خلو الشوارع من وحدات
الإطفاء الصغرى المتمثلة فى مواسير المياه الرئيسية على نواصى الشوارع.
ومن شارع عبد العزيز إلى سور الأزبكية، الملاصق لمحطة مترو أنفاق العتبة،
والمتخم بالأكشاك الخشبية الممتلئة بالكتب القديمة والمجلات والمراجع.. حيث
أكد أصحابها وقوع عديد من الحرائق ولم تفلح وحدات الإطفاء فى السيطرة
عليها، مطالبين بتوفير نقطة إطفاء للطوارئ بجوار السور، خصوصاً وأنه لصيق
بمحطة مترو الأنفاق، وهو ما يهدد بانفجار المحطة.
أما درب البرابرة بمنطقة العتبة فحدث ولا حرج.. فالشوارع تنتشر بها محال
لعب الأطفال البلاستيكية، بالإضافة إلى لوازم "سبوع" المواليد، واحتوائها
على أقمشة سريعة الاشتعال، علاوة على محال الألعاب النارية الخاصة بأعياد
الميلاد، والتى تحتوى على نسب كبيرة من المواد المتفجرة، وهو ما يمثل خطورة
على المنطقة إذا ما حدث حريق بها.
تجار درب البرابرة أشاروا إلى انتشار ورش الشمع والجلود بكافة الوحدات
السكنية فى المنطقة، فى الوقت الذى لا يوجد فيه سوى وحدة إطفاء العتبة،
متسائلين: ماذا نفعل إذا حدث حريق فى أكثر من مكان؟
وأوضح التجار أن كافة مواسير المياه اختفت من نواصى الشوارع، ودفنت أسفل
سطح الأرض، وهو ما يؤكد صعوبة التعامل معها فنياً، الأمر الذى يصعب معه
السيطرة على الحرائق فى منطقة تعمل معظم محلاتها بالنار والكهرباء، وطالبوا
بوحدات إطفاء متنقلة، ولها صفة التواجد بالقرب من الأسواق، خاصة الأماكن
التى لا تستطيع عربات الإطفاء الدخول إليها.
تمثل منطقة الموسكى قلب صناعة الأقمشة والمنسوجات فى القاهرة، ومع ذلك خلت
المنطقة من وحدة إطفاء مركزية لتأمينها مدنياً ضد الحرائق.. وقال عدد من
التجار إنهم يعتمدون فى إطفاء الحرائق على الطفايات اليدوية، والتى ربما لا
تستطيع السيطرة على حرائق الأقمشة والمنسوجات المتميزة باستجابتها للتفاعل
مع النار، وأشاروا إلى الحريق الضخم الذى التهم أكثر من 40 محلاً تجارياً
منذ سنوات، والذى سبب خسائر بملايين الجنيهات.
التجار أرجعوا سبب الحريق إلى تجاوزات بعض أصحاب المحال التجارية، خصوصاً
فيما يتعلق بتطبيق الأمن الصناعى، بالإضافة إلى ضعف الرقابة على المحلات
وتنفيذ قرارات إغلاق المنشآت المخالفة، مطالبين بضرورة وجود مكاتب استشارية
لعمل الديكورات الداخلية، وعمل شبكات إطفاء فى أسقف المحلات.
فى نهاية رحلتنا، اتفق سكان وأصحاب المحلات والبازارات والمقاهى والمصانع
والورش أن وسائل الإطفاء والحماية المدنية تقتصر على "الطفايات الصغيرة"
ووصفوها بأنها عاجزة عن مواجهة الحرائق، مطالبين بإنشاء وحدات إطفاء فرعية
مجهزة، وتركيب مواسير مياه كبيرة الحجم، وإنشاء نظام آلى متطور لإطفاء
الحرائق وربطه بجميع المحلات فى الحارات والشوارع الضيقة، بجميع الأسواق.
وفى الساعة الخامسة من عصر يوم الخميس الماضى ذهبنا حاملين مطالب ومخاوف
الأهالى إلى غرفة عمليات الإدارة العامة للحماية المدنية، بقطاع أمن
القاهرة، والتى تقع على بعد عدة أمتار من العتبة، وطلبنا من أحد موظفى
الهيئة مقابلة أى مسئول للاستفسار عن بعض المعلومات، فرد متسائلاً "من
أنتم" وحين أخبرناه بأننا صحفيون رد بقوله "مفيش مسئولين هنا، كلهم مشوا،
مفيش غير ناس عادية متنفعش ترد عليكم، تعالوا بالليل"، ولكن مع إصرارنا على
مقابلة أحد المسئولين، ظهر زميل آخر له وقال لنا تفضلوا يوجد المقدم محمد
صديق، المشرف العام على الغرفة فى هذا التوقيت.
وبعد عدة دقائق خرج لنا المقدم محمد وكتب لنا بخط يده بعض الكلمات هى "أى بيانات أو معلومات لا تؤخذ من خلالى"