ذهب وشن حربا مفتوحة ضد المدنيين العزل في غزة.. هذه التصريحات التي صدرت عن رئيس الوزراء التركي لم يجرؤ أي زعيم عربي علي البوح بها سواء بطريق مباشر أو غير مباشر، وهو الأمر الذي يفسر حالة الوهن العربي الذي تعيشه الدول العربية من المحيط إلي الخليج، وإذا كان زعيم أي من الدول العربية لم يقو علي البوح بتصريحات مشابهة لتلك التي اطلقها اردوغان ذلك لأن الأخير يملك من القوة والاستقلال ما يمكنه من شن مثل هذا الهجوم علي الدولة العبرية التي هي في ذات الوقت من أهم حلفاء تركيا.
لأن تركيا الآن في موقع يمكنها من لعب دور رئيسي بين الدول العربية وإسرائيل بل قد يمتد هذا الدور إلي البعد الاقليمي للدولة التركية كونها تتمتع بموقع استراتيجي بين الشرق والغرب وبين البلقان والقوقاز، وبين الإسلام والمسيحية، والبحرين الأبيض والأسود، والإرث الحضاري وموقع الثقل في التوازنات الدولية. حتي بعد انتهاء الحرب الباردة ظلت تركيا القوة العسكرية الضاربة، والاقتصاد المتنامي السادس عشر في العالم، والسياحة الهائلة، وهوامش الديمقراطية النيابية والبلدية، والعلمانية في مجتمع متعدد دينيا ومذهبيا.
من هنا تستطيع الدولة التركية التحدث بصوت مرتفع مع حلفائها قبل أعدائها، ومن هنا أيضا جاء احترام الدور التركي من الجميع.. الأعداء قبل الأصدقاء، ولعل هذا ما مكن انقرة من لعب دور الوسيط في المباحثات غير المباشرة بين إسرائيل وسوريا، ولعل هذا أيضا ما دفع اردوغان إلي القيام بجولة شرق أوسطية في محاولة لتنسيق المواقف ووقف الاعتداء الإسرائيلي علي غزة.
وعلي الرغم من أنه لم يشرح شيئا مفصلا عن جولة اردوغان في الشرق الأوسط التي تمت الأسبوع الماضي إلا أن وزير الخارجية أحمد أبو الغيط قال في القاهرة عقب عودته من زيارته لتركيا إن الفترة المقبلة ستشهد تكثيفا للاتصالات المصرية التركية التي تستهدف أولا الوقف الفوري للأعمال العدائية من جانب إسرائيل والعودة للتهدئة ورفع الحصار عن غزة وفتح المعابر بضمانات دولية.
وأوضح أن الرسالة المصرية للقيادة التركية تناولت ثلاثة محاور أساسية، أولها الجهد المصري منذ حدوث الانقسام الفلسطيني في يونيو 2007 حتي اليوم، والرؤية المصرية لتأثيرات هذا الانقسام، وكيف تعاملت مصر مع هذا الانقسام، وثانيا الرؤية المصرية لكيفية التوصل إلي تسوية فورية ومطلوبة في مواجهة هذا الوضع، وثالثا تقدير وتقييم المسببات التي أدت لهذا الوضع الذي نشهده والإطار الاستراتيجي للوضع في المنطقة.
وأكد أبو الغيط أن الأتراك يتفقون مع مصر تماما في هذا التقييم، وعلي الرغم من الإعلان الرسمي للقاهرة عن وجود تنسيق علي مستوي عال بين مصر وتركيا - كما جاء في كلام أبو الغيط - إلا أن انقرة بدأت في لعب دور مواز للدور الصري تمهيدا لسحب البساط من تحت أقدام القاهرة في الفترة المقبلة، وأن هذا الدور الجديد تم بمباركة كل من أمريكا وإسرائيل والدليل علي ذلك أن تل أبيب وافقت علي منح أنقرة هذا الدور الكبير المتمثل في الوساطة علي المسار السوري - الإسرائيلي لتحقيق هدفين: الأول هو حصار الدور المصري وتحجيم فاعليته، والثاني دق إسفين في علاقات أنقرة مع طهران التي لم تعرب البتة عن ابتهاجها بالحوار بين حليفتها دمشق وإسرائيل.
وفي ذات الإطار وأثناء زيارة رئيس الوزراء التركي إلي واشنطن أوائل العام الماضي ترددت أنباء مفادها أن الرئيس بوش طلب من اردوغان أن تلعب تركيا دورا أكثر فاعلية في عملية السلام في الشرق الأوسط، وأن عليها أن تختار أيا من الملفات ليكون بداية لهذا التحرك، وقد اختارت أنقرة الملف السوري الإسرائيلي ليكون البداية، ويبدو أن الولايات المتحدة اختارت تركيا في هذه المرحلة لتقوم بدور رجل الشرطة الاقليمي الجديد بجانب إسرائيل، كما أن أردوغان حظي خلال زيارته إلي واشنطن بترحيب كبير يتناقض مع ما يعلن أحيانا في صحف الغرب من أنه وحزبه لهما ميول إسلامية وهو ما يفترض أن يغضب أمريكا التي تعلن الحرب الآن علي ما تسميه التطرف الإسلامي.
وبالإضافة إلي رغبة الولايات المتحدة في منح صلاحيات جديدة لأنقرة يتحدث البعض في واشنطن عن رغبة أمريكية في استغلال النهج الإسلامي المعتدل لحزب العدالة والتنمية وتصديره إلي الدول الشرق أوسطية الأخري وبدا أن هذه الدعوة المواكبة للمطلب الأمريكي من تركيا جاءت لتعلن نوعا من المشاركة والمؤازرة في عملية الترويج لمفاهيم إسلامية معينة تتماشي مع المفاهيم الغربية التي يجري الحديث عنها الآن في الغرب، كذلك فإن هذه الدعوة سبقت مباشرة الاتصالات التركية - المصرية عالية المستوي مما أوحي بأنها جاءت مقصودة لتصب في خانة هذه الاتصالات ولتعلن عن خطوة من خطوات المساندة والقبول بالدور التركي الجديد الذي افتتح من جانب أمريكا بطلب ترويج الإسلام العصري حسب النسخة التركية، وكأن القاهرة لا تملك في هذا الصدد إلا الانصياع للأمر الواقع والالتزام بالتوجهات الأمريكية خاصة في ظل الضبابية التي ميزت العلاقات المصرية - الأمريكية في الفترة الأخيرة.
وفي حقيقة الأمر فإن تركيا لها من المقومات ما يجعلها تصلح للعب هذا الدور الاقليمي ولا يعود ذلك فقط إلي قوتها العسكرية التي تأتي في المرتبة الثانية في الاقليم بعد إسرائيل وإنما يعود في المقام الأول إلي علاقاتها التاريخية بالعالمين العربي والإسلامي وهي علاقات يمكن استغلالها لتدعيم المفاهيم الأمريكية في المنطقة.
ويرجع عدد من المراقبين اعتماد الولايات المتحدة علي تركيا لكي تلعب الأخيرة دور شرطي المنطقة إلي تخلي واشنطن عن سائر القوي العربية التي كانت تلعب دورا إقليميا أو التي كانت ترغب وتمني النفس بلعب هذا الدور، ويعكس هذا التصور الأمريكي عدم جدارة تلك الدول بذلك الدور ربما لضعفها أو لعدم استطاعتها الوفاء بالطلبات الأمريكية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تتمادي الولايات المتحدة في منح تركيا هذا الدور إلي أن يبلغ المدي غير المسموح به؟
قبل الإجابة علي هذا السؤال من المهم الإشارة إلي أن إسرائيل ترغب فقط في استخدام الدور التركي بالقدر الذي يسمح لها بتحقيق مكاسب، لكن أن يبلغ هذا الدور مدي غير مسموح به فهذا بمثابة خط أحمر للسياسة الإسرائيلية، والدليل أن ايهود أولمرت زار تركيا ولم يبلغ الأتراك بنية بلاده في الهجوم علي غزة بل علي العكس بدا وكأنه منفتح علي السلام أكثر من ذي قبل ومستعد لتمديد التهدئة، وهو الأمر الذي دفع أردوغان إلي شن هجوم غير مسبوق علي أولمرت بشكل شخصي وقال إن هذا الرجل لا يحترم تركيا.
والخلاصة هي أن الدبلوماسية التركية يجب ألا تحلم بأكثر مما هو متاح لها، ويجب عليها كذلك أن تدرك لعبة توزيع الأدوار جيدا وإلا سوف تصطدم بواقع مرير يعيدها إلي شاكلتها الأولي، كونها كانت في السابق رجل أوربا المريض.