احمد شعلان يكتب: التدين المحافظ ومناصرة الاستبداد السياسي في مصر
كاتب الموضوع
رسالة
احمد شعلان
عدد الرسائل : 17047 الموقع : جريدة الامة تاريخ التسجيل : 24/09/2008
موضوع: احمد شعلان يكتب: التدين المحافظ ومناصرة الاستبداد السياسي في مصر السبت 18 ديسمبر 2010 - 11:45
[img]https://alomah.yoo7.com/[/img] منذ منتصف القرن الثامن عشر ولقرن بعد ذلك قامت دعوات تجديدية إصلاحية في أطراف الدولة العثمانية، اتفقت على نبذ التقليد والمناداة بفتح باب الاجتهاد. لكن هذه الموجة تفادت منطقة القلب التي تقع في مجال الهيمنة المركزية للعثمانيين، وهي المنطقة الممتدة من تركيا إلى الشام إلى مصر، التي بقيت عصية على التغيير والتجديد، نظرا لسطوة واستقرار المؤسسات التقليدية المحافظة، وتواجدها في دائرة الضوء الساطع لأجهزة الدولة، واتصالها جميعا بهيئات الحكم والسلطان. وهذه الرؤية التي يصل إليها المفكر والقاضي والمؤرخ طارق البشري تبين أنه رغم الجهود المتواصلة للتجديد الفقهي والإصلاح الفكري في الأزهر الشريف فإنها لم تتمكن من خلق قوة دفع قادرة على شق نهر وسيع وسط صخور الجمود التي تراكمت على مدار قرون، فهذه الجهود كانت متقطعة وضعيفة وأصحابها كانوا يلاقون عنتا وعناء شديدين، ولم يكن لهم ظهر قوي يحميهم، لأن السلطة مالت إلى العلماء المحافظين، الذين أنتجوا خطابا دينيا يبرر لأهل الحكم مسلكهم، ويساعدهم في كسب الشرعية، ويجلب لهم طاعة الناس. ولهذا تم قمع المجددين، تشويها وتنكيلا وطردا وتجاهلا، بينما استغلظ الفقه المحافظ، وسيطر على أذهان الدارسين، الذين نشروه على العوام، وجعلوه زادهم اليومي، والإطار الأوحد الذي يستندون إليه في تفكيرهم وتدبيرهم. وفي اللحظة الراهنة باتت خريطة التدين الإسلامي المحافظ في مصر تتوزع على مؤسسات وتنظيمات وحركات وتوجهات عديدة، فداخل الأزهر ووزارة الأوقاف هناك أفكار وأراء فقهية وتفاسير ورجال تقليديون، وأمثال هذه الأفكار وهؤلاء الرجال متواجدون في المؤسسات الدعوية السلفية مثل (الجمعية الشرعية للعاملين بالكتاب والسنة) و(جمعية أنصار السنة المحمدية)، وتمتد إلى (جماعة التبليغ والدعوة) التي انطلقت من الهند لتجد في مصر أرضا خصبة لها. وكل هذه المؤسسات تشيع تصوراتها في المجتمع بحرية كاملة، لأن قولها وفعلها يقتصر على الدعوة ولا يمتد إلى السياسة. وحتى الجماعات ذات المشروع السياسي لم تبتعد كثيرا عن التصورات التقليدية المحافظة. فالإخوان المسلمين يخلصون حتى هذه اللحظة لبيانهم المؤسس الذي يجعل (السلفية) جزءا أصيلا في تكوينها الأيديولوجي. والجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد إن كانا تنظيمين ثوريين من حيث الحركة فإن أفكارهما محافظة في جوهرها. وحتى المراجعات التي أجرتها الجماعة ابتداء من عام 1997 واستوت على سوقها مع مطلع الألفية الثالثة، لم تفارق التفكير المحافظ، وكل ما فعلته الجماعة هو أنها عدلت توجهها بأسانيد من المعين نفسه، والذي يعتمد على تأويلات لآيات وأحاديث نبوية وآراء فقهية وتخريجات لغوية نابتة في أرض حبلى بأنساق فقهية وفكرية قديمة، تم إنتاجها، في الغالب الأعم، لزمن غير زماننا، ولم يقصد من أقاموا بنيانها أبدا أن يجعلوها تنطبق على الزمان كله، فهذا مستحيل، وهم كانوا يدركون هذا تماما، وكان كثيرون منهم في صيرورة دائمة، ونقد للذات لا يتوقف، واستجابة لا تنقطع لمقتضيات الواقع الذي يتجدد باستمرار. ودخول الجماعات السياسية المتطرفة ذات الإسناد الإسلامي في خصام ومواجهة مسلحة ضد السلطة الحاكمة لا يعني تخلي هذه الجماعات عن توظيف الدين في خدمة الاستبداد، فمشروعها السياسي ومطالبها وشعاراتها لا تروم التحرر الفكري والسياسي ولا قيام العدالة الاجتماعية ولا الانتصار لأشواق الناس إلى الحرية والعدالة والكفاية، بقدر ما تسعى إلى إزاحة نظام حكم مستبد شبه علماني واستبداله بنظام حكم مستبد على أساس ديني. ولم يشذ الدعاة الجدد عن هذه القاعدة، فهم استحدثوا طرقا جديدة في عرض آرائهم، تعتمد على الخطاب التمثيلي البسيط المتماهي مع تفاصيل الحياة والملبي لحاجات الفئات والشرائح الاجتماعية المقتدرة اقتصاديا، دون أن يكون مضمون خطابهم جديدا في ما ينطوي عليه من أفكار وقيم وإجراءات. وحتى الطرق الصوفية، إن كان بعضها قد حول التدين إلى فلكلور، فإنها لا تنتمي في غالب أفكارها وتوجهاتها إلى التصوف الفلسفي ذي النزعة التحررية، بل تدير خطابا يشبه في بعض جوانبه ذلك الذي تتبناه الجماعات الدعوية السلفية. ومن يحلل مضمون مجلة (التصوف الإسلامي) الناطقة باسم المشيخة العامة للطرق الصوفية في مصر سيصل إلى هذه النتيجة بسهولة ويسر. وقد توسع أصحاب التدين المحافظ في الثابت والراجح والمعلوم من الدين بالضرورة وقدسوا بعض المنتج البشري وعلم الرجال وقدموا الرواية على الدراية، وبنوا جدارا سميكا من هذه التصورات والمنظومات الفقهية، وظنوا أن هذا هو (صحيح الدين).. ومع ظهور وسائل الاتصال والإعلام الحديثة راجت هذه التوجهات، وظهر للتدين المحافظ وجه جديد في وسائله قديم في بنيته الفقهية، يتمثل في قنوات فضائية تعتلي منابرها مجموعة من منتجي الفتوى والرأي والتفسير، الذين يرددون أقوالا من بطن الكتب الصفراء، ويأخذون الناس وراءهم في تعزيز المظهر الديني على الجوهر، والطقوس على الأخلاق. ويبذل أتباع التدين المحافظ جهدا واضحا في تدعيم أركان السلطة في مصر، على فسادها واستبدادها، ويتعايشون مع هذا الوضع راضين مرضيين، تحت دعاوى (طاعة ولي الأمر)، ولذا كلما تحدث الناس أمامهم عن مقاومة السلطان الجائر، احتجوا هم بالآية الكريمة التي تقول: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) مع أن بعض المفسرين جعلوا العلماء من أولياء الأمر، ولم يقصروا هذه المزية على الحكام، ومع أن الآية تقول: (أولي الأمر منكم) أي من اختياركم، وليس (أولي الأمر عليكم) أي يحكموكم بالقهر والقسر والتغلب. وهناك عوامل عديدة تقف وراء تنامي (التدين المحافظ) في مصر، منها عاملان أصيلان، أولهما: تشجيع الأنظمة السياسية المتعاقبة لهذا المسار نظرا لأنه يخدم مصالح أهل الحكم، ويضفي علي وجودهم شرعية، وينتج لهم خطابا يستعملونه في مواجهة خطابات الجماعات الدينية المسيسة التي تسعى للوصول إلى السلطة. أما الثاني فهو: وجود بيئة اجتماعية مواتية. فالتدين طابع أصيل عند المصريين منذ الفراعنة وحتى اللحظة الراهنة، والدين يشكل المرجع الأساسي للقيم والتوجهات العامة والخاصة للناس على ضفاف النيل، ولذا لا نجافي الحقيقة إن قلنا إن كانت مصر الجغرافية هبة النيل، فمصر التاريخية هبة النيل والدين معا. ومع ضعف تيار التجديد طيلة التاريخ المصري، قام منتجو الخطاب الديني المحافظ بتلبية احتياجات المصريين المتصاعدة إلى الدين. وهناك عوامل طارئة أو جديدة منها الظروف الاقتصادية الصعبة التي تجعل الناس أقرب إلى التشدد منه إلى التيسر، والتطرف منه إلى الاعتدال، وكذلك تأثير الموجات السلفية في دول الخليج على مصر، نظرا لانتقال عشرات الملايين من المصريين على مدار أربعين عاما، ذهابا وإيابا، بحثا عن الرزق في بلاد النفط. ومنها أيضا استمرار الأمية الأبجدية والثقافية، وضعف التيار التجديدي عموما واقتصار تأثيره على النخبة ووهن صلته بالعوام.
احمد شعلان يكتب: التدين المحافظ ومناصرة الاستبداد السياسي في مصر