.داليا الشيمى: غزة تحتاج "إعمارا نفسيا"
الأربعاء، 4 فبراير 2009 - 11:30
د. داليا الشيمى خلال لقائها با
"الناس فى غزة متبهدلة آخر بهدلة".. هكذا بدأت د. داليا الشيمى، طبيبة الأمراض النفسية، وموفدة الهلال الأحمر القطرى إلى غزة، حديثها إلى اليوم السابع فور عودتها من رحلة للدعم النفسى إلى غزة.
المشاهدات التى تحدثت عنها د. داليا الشيمى فى غزة, لا يمكن أن تصفها كلمات أو تظهر بشاعتها صور, فمجرد بتر السيقان والحروق والتشوهات, والرصاصات الساكنة بالجماجم, وكم الأشلاء والشهداء هناك, كلها تعتبر مشكلات بسيطة وهينة - كما تصفها د . الشيمى - مقارنة بتشوهات وجراح النفوس.
ما أكثر الفئات تضرراً فى غزة؟
الدمار لم يستثنى أحدا, ولا توجد أسرة غير مكلومة فى غزة, إما فى مصابها وإما فى شهيدها, حتى من لم تصبه الرصاصات أو القنابل سواء فى جسده أو فى بيته بشكل مادى فإن لديه جرحا وشرخا نفسيا كبيرا, الغزاوية جميعهم صحتهم النفسية مضروبة فى مقتل, ولكننا – كمعالجين نفسيين – غالبا ما نمتنع عن الخوض فى هذه الأمور حتى لا نؤثر على صمودهم ونحبط من عزيمتهم, فنحن فى حيرة, لو تكلمنا ربما أثرنا على صمودهم, ولو صمتنا واكتفينا بالحديث عن شجاعتهم وصمودهم كنا كمن يسأل مكلوما وهو يعلم مقدار مصابه: أخبارك إيه؟ وننتظر أن يجيب بالحمد لله على الرغم من أننا واثقون أنه مدمر نفسيا.
ولا تتعجبى إذا قلت لك أن أكثر الفئات تضرراً من الناحية النفسية بعد الأطفال, هم رجال الإسعاف, حالتهم النفسية سيئة للغاية, ولك أن تتخيلى أن أحدهم كان يتلقى إحدى الإخباريات عن وجود مصابين فى أحد الأماكن أثناء الحرب بالتليفون, فأصدر أمرا لزملائه بالخروج إلى مكان الحادث وهناك اتصلوا به يخبرونه أنهم قاموا بتفتيش الضحايا للحصول على هوياتهم ولكن أحد الضحايا وجدوه رأسا وساقين فقط والجسد "طاير تماما", فأمرهم بإحضار الجثث, والمفاجأة لدى استلامه هذه الجثة المتبقى منها الرأس والساقين أنه وجدها "ابنه"!
أحد رجال الإسعاف اضطر فى أحد المرات التى كان يحمل فيها الجثث إلى عربة الإسعاف أن يحمل 13 طفلا من الأحياء وجدهم مكومين إلى جوار جثث الكبار, وعندما وصل إلى مقر الإسعاف وجد نفسه يسأل نفسه من أتى بهؤلاء الأطفال إلى هنا!! لاحظى هنا " الانفصال" الذى حدث للرجل المسعف, هناك خبطة قوية تم توجيهها للنفس البشرية هناك, ولم أستطع أن أقدم لهم أكثر من جلسات للتفريغ النفسى وفقط, ولكنهم يحتاجون بالطبع لاستكمال بقية العلاج النفسى.
وماذا عن أحاسيس الناس هناك, والتأثيرات النفسية للانقسام ما بين فتح وحماس, ونظرتهم للمصريين والعرب؟
هناك اختلاط للمفاهيم لدى عامة الناس كبير, اللخبطة الحاصلة لديهم بالنسبة لمن عليهم ومن معهم من الدول, لم تعد لديهم القدرة على تمييز ذلك بالنسبة لمن هم خارج محيطهم, تساؤل متشكك لديهم مفاده "هل أنتم حاسين بينا, هل الناس اللى بتتفرج علينا داريين بينا, حاسين أننا مهمون, وأننا بشر وموجودون ", طبعاً تساؤلات مريرة, أما الانقسام فكما نعرف أن الفلسطينيين عوائل, وفى داخل العائلة والأسرة الواحدة نجد أن الأخ فتحاوى وابن عمه حمساوى, وجالسين بياكلوا على طاولة واحدة, لا يوجد بينهم ما بين القادة, فالمصاب واحد والكارثة على الجميع ولا مجال لمثل هذا الحديث. وزارة التربية والتعليم من أكثر الكوارث التى يمكن رؤيتها, فالناس واقفة لإعادة تجميع أوراق الأطفال, الحرب تضيع الماضى والحاضر والمستقبل, الهويات ضاعت, والشهادات راحت, تخيلى إنسان مش عارف يثبت أنه حاصل على ليسانس أو بكالوريوس أو حتى ثانوية أو إعدادية, كل الأوراق راحت ونحن عالم من الورق, وهذه إحدى ويلات الحرب, ولذا فمن يستسهل الحرب هو لا يدرك معنى الحرب ونتائجها.
لقد كانت الضربة قاسية للغاية, وهناك عزبة تسمى "عزبة عبد ربه" هذه تمت تسويتها بالأرض تماماً, حتى أشجار الزيتون تم تجريفها, بحيث لا تصلح هذه العزبة للحياة من جديد, وبالقرب منها التقيت بـ"خالد" الأب الشهير الذى سلطت عليه الفضائيات الضوء، حيث ضربت قذيفة دبابة ابنتيه "أمل" سنتين, و"سعاد" سبع سنوات وكانتا تلعبان بدبدوب, ويأكلان شيكولاتة وشيبسى, ومازال الأب جالس فى مكان بيته المهدوم ممسكاً بموبايل عليه صورة جثة أمل, والدبدوب الذى قطع رأسه فى القصف, ومن يومها وهو بالبنطلون نفسه, ولا يريد التحرك من مكانه ينام ويجلس فيه, ويهذى بأسماء بناته والحدث, لديه حالة ذهول بالطبع, وهو من الحالات الحرجة التى تحتاج إلى علاج نفسى عاجل.
باعتبارك صاحبة أول كتاب عربى عن العلاج النفسى للأطفال ما بعد الحرب.. ماذا عن حالات الأطفال هناك المتضررة نفسياً؟
الأطفال هم أكثر الفئات تضرراً, أحضروا لى طفلة 4 سنوات تقريباً, سليمة جسدياً ولم يصب أحد من أفراد أسرتها, إلا أنها لا تريد أن تنام على المخدة لأنها تتوهم أن المخدة عليها يهودى, وهذا بسبب أنها سمعت عن قصف لبيت جيرانهم وتهدم جزء من السقف, سقط على السرير!
هذه البنت كانت لا تريد أن تتكلم, والحمد لله تم عمل تفريغ نفسى لها, ولكن الموضوع كبير وليس الأمر خاص بطفلة أو طفلتين, لذا قابلت وكيل أول وزارة التعليم د. إسماعيل كامل إبراهيم وأبديت استعداداً لعمل دورات للمدرسين بالـ129 مدرسة التابعة للحكومة لتأهيلهم, ولدى برنامج خاص لذلك صدر فى كتاب بعنوان" مدرسة ما بعد الحرب "وعلى استعداد للمكث هناك ولو لـ6 أشهر, وقد أبدوا موافقتهم واستعدادهم أيضاً, فالحدث جلل وتخيلى أطفال راجعين مدارسهم مشوهين ولديهم إصابات بالغة, وأطفال لن يرجعوا لأنهم استشهدوا, فماذا عن مشاعر أقرانهم بالطبع الأمر صعب. إعادة إعمار البشر فى غزة حتحتاج شغل ووقت أكبر, من الإعمار بالحجر, لذلك تمكنت خلال 5 أيام من تدريب 65 شابا وشابة من العاملين فى مجال الخدمة النفسية تابعين لجمعيتى أعمار والوداد فى غزة وخان يونس, لأنهم محتاجون بذرة منهم تتحرك فى وسطهم, لو تعذر وجودنا بينهم لفترات طويلة.
هؤلاء الشباب والشابات بالتأكيد لديهم اضطرابات بأثر الحرب فكيف لهم أن يقوموا بعلاج الآخرين؟
هذا صحيح, والطبيب أو المعالج النفسى نفسه يتعرض لوعكات نفسية مثله مثل أى أحد, ولكن صاحب المهنة يعرف كيف يتفادى وكيف يقاوم, وكيف ينجو إلى حد ما, ولذلك أول ما تم القيام به هو عمل تفريغ نفسى لهؤلاء المتطوعين قبل تدريبهم.
أدعم غزة ولو بمكالمة كان أحد المشروعات التى قمت بها, وآخرون.. وهى التواصل تليفونياً وبشكل عشوائى مع أهالى غزة وقت الحرب.. فهل لمست لها تأثيرات نفسية هناك؟
دعينى أحكى لك موقفا واحدا حكته لى إحدى السيدات فقد جاءتها مكالمة وهى تحت بير السلم نايمة فى الظلام وقت القصف, ورن الموبايل ولقيت واحدة مصرية بتسلم عليها, وكان إحساسها كأن روحها ردت إليها كما تقول, "التواصل" مهم جداً نفسياً, التواصل بكافة أشكاله ولو كان عن بعد, المأزوم والمتعرض لظلم أو كارثة إلخ محتاج " قشاية" يتعلق بها, ولا تتخيلى الفرحة بما فعله مثلاً أردوغان, لدرجة أن إحدى الزوجات استأذنت زوجها تضع صورته على موبايلها, أبو تريكة أيقونة هناك, وصورة تملأ غرف الشباب, البيوت المهدمة فى مكوناتها المتهدمة صوره بين الأنقاض, من يوم ما رفع فانلته المكتوب عليها غزة.
ما هى تحديات العلاج النفسى هناك؟
طبعا الاعتراضات كثيرة جداً, فهم يقولون إن هؤلاء شهداء والله أعطانا عطية ثم أخذها, وعلينا الرضى, وأنهم أعصابهم قوية ولم يحدث لهم شىء, ولكن الحقيقة أن ملامح الاضطراب النفسى واضحة لدى البعض وخفية لدى البعض الآخر, نعم القوة الإيمانية مهمة, والرضى, والتنشئة, هذه كلها مهمة وبتفرق ولكننا لا نستطيع إلغاء البعد الإنسانى أو إقصائه, هذا أمر لا نملكه وقد رأيته فى نهر البارد, وفى حرب لبنان, وفى الدويقة, وفى عبّارة السلام, فالألم لا يلغى الإيمان, ولابد من المساندة النفسية وقت الحروب على الأخص والكوارث بشكل عاجل، ويتمثل ذلك فى المساعدة على التفريغ النفسى, حتى يتكلم عن الخبرة المؤلمة وكأننا بنحيدها إلى حد ما, نعمل إعادة بناء للأفكار وإعادة تكيف مع الأمر الذى وقع عليه, من فقد لعين, ساق, بيت, ابن.. إلخ, لأنه أسوأ شىء وقت حدوث الكارثة وبعدها أن نسكت, ونمنع أنفسنا من الحديث عما يؤلمنا, فهذا يؤدى إلى كبت الخبرة المؤلمة, لأنها تصبح طاقة سلبية يتم تخزينها, والصحيح أن يتم التخلص منها, وهذا يتم عن طريق المساندة النفسية التى نقوم بها.
لديك اعتراضات على التغطية الإعلامية للحرب على غزة, ترين أن تأثيراتها النفسية سيئة, لماذا؟
نعم أرى أنها تهدم الطفولة, هذه ليست بطولة, أن تتسابق الفضائيات لإظهار فتاة استشهد كل أفراد أسرتها, ولا تبكى ونصفها بالصامدة الشجاعة, فهناك شىء اسمه إعلام الحروب, والإعلام البديل, طريقة النقل عليها تحفظات بالطبع فهى تهدم أكثر ما تبنى وبمزاعم إعلامية اعتبرها مساعدة للعدو, فهناك حقوق للطفل لابد من مراعاتها, وهناك إعلام يسمى إعلام الأزمة, ولكن ما فعله الإعلام يؤدى إلى "تليف" الألم النفسى وترسيخه!