ربما لا يعلم البعض أن صاحب فكرة إقامة دولة حملت بعد ذلك اسم »إسرائيل» هو نابليون بونابرت؛ إذ إن هذا الداهية العسكرى الفرنسى هو الذى التفت حوله فأمعن النظر فاستطاع أن يقرأ واقع الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط ببراعة لم يسبقه أحد إليها من قبل. «إذا أردت السيطرة على قلب العالم العربى فعليك أن تقصم وسط الساحل الشرقى للبحر الأبيض المتوسط». هذه هى فلسفته قبل أكثر من قرنين من الزمان، وهذه هى مصيبتنا اليوم.
من نوافل القول الآن إن فلسطين، وبخاصة غزة، تدخل مباشرةً فى قلب مفهوم الأمن القومى المصرى. تهتز غزة فتلين بوابة مصر الشرقية، وتصمد غزة فتمتنع مصر كلها. هذه عصارة تاريخ طويل من أيام الفراعنة والرومان والعرب والتتار والصليبيين والاستعمار الحديث والإسرائيليين. اختلفت طبائع الصراعات من عصر إلى عصر لكنها اتفقت جميعاً على ظاهرة واحدة: أن مصر تنتصر حين تدافع عن نفسها خارج حدودها، أو حين يدافع عنها الآخرون.
فليفكر إذن مرةً أخرى أولئك الذين «تكرموا» فى مصر بالتعاطف مع ضحايا مذبحة غزة الأخيرة. فهؤلاء الذين استشهدوا بقنابل اليهود الإسرائيليين استشهدوا فى الواقع دفاعاً عن مصر، سواء أدركوا هذا أو لم يدركوه، سواء أحبوه أو كرهوه. وليفكر إذن مرةً أخرى أولئك الذين يخلطون، عن عمد أو عن سهو أو عن جهل، بين أهداف سياسية مرحلية مؤقتة زائلة وبين ثوابت الأمن القومى وأعمدة الجغرافيا السياسية. وليفكر إذن مرةً أخرى أولئك الذين أرادوا أن يكونوا أنانيين ففشلوا حتى فى استيعاب مفهوم الأنانية.
جوهر الأنانية «الإيجابية» فى هذه الحالة يقبع فى دفاعك «عمليا» عن نفسك عن طريق دعم من يقف أمامك فى الصف، لا عن طريق رفع شعار عاطفى أجوف مثل «مصر أولاً»، ولا عن طريق ركل من يقف أمامك فى مؤخرته. تعيش مستور الصدر إذا عاش وتواجه الطوفان عارى الصدر إذا مات. أنا أرفع شعار «أنا أنانى» ولهذا أنا أبدأ بنصرة من هو مثلى «أنا»، ثم أتحسس مسدسى حين أسمع كلمة «مصر أولاً».
فليفكر إذن مرةً أخرى «أسيادنا» حين يعلمون أن «عبداً» مملوكاً، اسمه الظاهر بيبرس، هو الذى أدرك جوهر الأنانية «الإيجابية» من منظور مصر فخرج لنصرة الشماليين على التتار فعاشت بلاده. وليفكر إذن «أسيادنا» لماذا تثور ثورة من يعتبروننا أعداءهم (و يعاملوننا على هذا الأساس) كل مرة يقترب فيها جنوب الساحل الشرقى للبحر الأبيض المتوسط من شماله (مصر وسوريا بلغة اليوم). حدث هذا أيام صلاح الدين الأيوبى وأيام محمد على، كما حدث أيام جمال عبد الناصر وأيام حرب أكتوبر المجيدة، وسيحدث دائماً كل مرة يقترب فيها القطبان.
هذا هو واقعنا وهذا هو قدرنا، ومن لا يدرك هذا فهو إما جاهل أو مُغرض. أما وأننا لا نعتقد أن صناع القرار، سواءٌ فى مصر أو فى سوريا، يندرجون تحت أى من هذين التصنيفين فإن من الحكمة، ومن المسئولية فى آنٍ معاً، أن نرتفع جميعاً فوق مستوى الحسابات المرحلية والاستمزاجات الشخصية قبل أن يتحول المرحلى إلى متكرر ويتحول المتكرر إلى منهجى ويتحول المنهجى إلى ثابت.
الحكومات تأتى وتروح. لكل منها رؤيتها للواقع بناء على ما ترى فيه مصلحتها ومصلحة شعبها. وحتى إذا تلخصت رؤيتها لمصلحتها فى مجرد البقاء فى السلطة رغم أنف الشعب (مثلما هو الحال مع معظم الحكومات العربية) فإن ذلك لا يمنحنا الحق فى استخوانها ولا يمنحها الحق فى استغفالنا، ولا يمنح أياً منا الحق فى مصادرة الثوابت.
مثلما أن من الواجب أن يسعى المرء بكل الطرق المشروعة إلى استعادة الحق، فإن من الواجب كذلك حين يدرك أن ظروفه لدى لحظة زمنية معينة لا تسمح له باستعادة الحد الأدنى من حقه ألا يحرم الأجيال القادمة من شرف المحاولة لعل الظروف تتغير، وهى متغيرة لا محالة. وبالمقابل، مثلما أن من الواجب أن يكون لدى المرء رؤيته الخلاقة فى قراءة موقف متراوح، فإن من الواجب كذلك أن تكون لديه القدرة على التمييز بين ما هو مرحلى وما هو ثابت. بعبارة أخرى: أن يكون قادراً على تحديد مواقع الخطوط الحمراء، وأن يكون من الحكمة (ومن الواقعية) بحيث ينحنى تواضعاً أمامها وإلا كانت نهايته.
من الحكمة والواقعية كذلك (و أيضاً من شجاعة القلب) أن تنصر الحاكم على المتزلفين والمنافقين والذين لا يعلمون. إنها لمسألة تدعو إلى الأسف أن يعقد البعض منا، ومن بينهم «الزعيم» عادل إمام، دم شهداء غزة بناصية المقاومة (بغض النظر عن رأيك فى منهجها وفى أعضائها)، وإنها لمسألة تدعو إلى الحزن أن تقوم بعض الجماعات بإهدار دمه لأنه عبر عن رأيه فخانه الفارق بين المرحلى والثابت. وإنها لمسألة تدعو إلى التأمل أن تكون لدى البعض منا فى مصر كل هذه القدرة على التعالى والغرور (وأحيانا العنصرية) حين نواجه نقداً من هؤلاء «العرب»، حتى ولو كان بناءً وراقياً وعلى حق.
غير أن المسألة التى تدعو إلى القلق، أشد القلق، هى انتقال هذا اللغط من دائرة النخبة إلى دائرة العامة بصورة تهدد بخلط المرحلى بالثابت ربما إلى أمد بعيد على مرأى ومسمع من جيل نما فى ظروف هشة. بين أيدينا فى مصر جيل يفصله عن حرب أكتوبر أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، جيل لم يدرس مادة «التربية القومية»، جيل لم يعد حكراً على الآلة الإعلامية للدولة، جيل خرج منه من تزوج إسرائيليات وخرج منه من التحق بالقاعدة، جيل لا يعلم إذا تسلل لص إلى منزله بأى رقم هاتفى يتصل. لقد وصل «جيل كامب ديفيد» بين ليلة وضحاها إلى مرحلة الشباب فلم يجد موقعاً له فى البلد أفضل من موقع «فيس بوك».
على هؤلاء ينبغى أن نقلق وعلى أولادهم، لكننا بدلاً من ذلك «نستخدمهم» فى إطار ألعاب سياسية شخصية مرحلية عبثية تنتمى إلى عصور سحيقة، تماماً مثلما استخدم عبد الناصر (بغض النظر عن رأيك فيه) صوت العرب (بغض النظر عن رأيك فيه) كى يؤلب الرأى العام العربى (بغض النظر عن رأيك فيه) على النظام السعودى (بغض النظر عن رأيك فيه). فلا فشل عبد الناصر ولا فشل صوت العرب ولا فشل الرأى العام العربى ولا فشل النظام السعودى. فقط أضعنا وقتنا فى عبثية ضارة لا نزال نشتم رائحتها حتى اليوم فى عقدة «الفوقية/الدونية» لدى بعض النماذج فى الشعبين الشقيقين.
إننا لا نريد لمثل ذلك أن يحدث اليوم بين الشعبين المصرى والسورى. سيغضب كثيراً فى قبره نابليون بونابرت. لا نريد للمرحلى أن يتكرر ولا نريد للمتكرر أن يتمنهج. إن الخطر يكمن فى أن يتجاوز الخلاف مستوى الساسة إلى مستوى الأمنيين إلى مستوى الإعلاميين إلى مستوى المثقفين إلى مستوى الفنانين إلى مستوى عامة الشعب. عندها يتحول الخلاف إلى شك ويتحول الشك إلى كراهية، ويتحول نابليون بونابرت فى قبره إلى البحث عن تحدٍّ آخر أكثر تشويقاً