يجوز القول، ببعض من التبسيط المُخِلّ، إن الكفاءة هي أول شروط الزعامة. إذ لا يمكن أن تكون لغير الكفء شرعية الانتماء لمهنة ما، ناهيك عن تولي منصب قيادي في إحدي مؤسساتها. إلا أن من الواضح أن أمور هذه الدنيا لا تسير علي هذا النحو، حتي أنه ليخيل للمرء أن هذه القاعدة المنطقية (الكفاءة هي أبسط العناصر المكونة للشرعية الضرورية للزعامة) ليست موجودة، علي ما يبدو، إلا لكي يسهل الإمعان في كسرها وانتهاكها.
ولعل أبرز مهنة يبدو أن بلوغ الزعامة فيها لا يجري علي أية أصول أو قواعد، إنما هي مهنة السياسة. وقد يتبادر إلي الذهن أن هذه الاعتباطية تقتصر علي الدول ذات الأنظمة التسلطية التي ليس الأمر فيها إلا لمن غلب، أبي من أبي وأحب من أحب. إلا أن المثير للانتباه أن الأنظمة الديمقراطية المعاصرة (التي يتعلم الطلاب فيها أن هيكلة الحياة السياسية وانتقاء النخب السياسية هما من أهم أدوار الأحزاب) تزخر هي الأخري بالأمثلة، التي يظل فيها اللبيب حيران، علي انعدام الآليات التي تحول دون أن تؤول زعامة الأحزاب السياسية، بل زعامة الحكومات والدول، إلي شخصيات محدودة القيمة ضيقة الأفق، بل دون متوسط المواطن العادي في بلادها، أي إلي شخصيات تفتقر أصلا إلي خصال الزعامة.
وبالنظر إلي أن الرئيس بوش هو أشهر مثال علي غرابة مقاييس انتقاء النخب السياسية داخل الأحزاب، بل وعلي اعتباطية ظاهرة الزعامة، فقد درج كثير من المعلقين علي المقارنة ليس بينه وبين أسلافه فقط (من أمثال كلنتون، ونيكسون، وكندي...) بل حتي بينه وبين أبيه، مع الإقرار العام بأن أباه لم يكن شخصية لامعة هو الآخر. حيث كثيرا ما يقال إن بوش الأب كان يتميز، علي الأقل، بخبرة طويلة في دوائر الحكم (البيت الأبيض، والاستخبارات، والدبلوماسية) وبأنه كان علي اطلاع واسع علي شؤون العالم قبل الفوز بالرئاسة. إلا أنه لم يكن يحظي باحترام واسع النطاق، حتي أني لا أزال أذكر أن الرئيس السابق جيمي كارتر قال في مقابلة إذاعية إبان حملة انتخابات عام 1988 التي انهزم فيها المرشح الديمقراطي مايكل دوكاكيس إن بوش (الذي فاز بخلافة رونالد ريغان بعد أن كان نائبه لثمانية أعوام) معروف بالحمق.
وربما يكون هذا رأيا لا يجدر الاعتداد به بالضرورة، خاصة أنه قد سبق لجان بول سارتر القول إنه ما من أحد في هذه الحياة إلا قد وُجد من يعتبره أحمق. لكن لعل مما يدعم رأي جيمي كارتر أنه قد كان يباع آنذاك في المكتبات في الولايات المتحدة كتيّب جمعت فيه نوادر مضحكة من أقوال بوش وتصريحاته، ولو أن هذه الظاهرة أصبحت دارجة أكثر هذه الأيام لكثرة ما نشر من دواوين ومختارات من أقوال بوش الابن الذي لا يضاهَي في مضمار العِيّ المعيب والاعتداءات السافرة علي قواعد اللغة. ومما يشير إلي نوعية تفكير بوش الأب أنه قال للتلفزيون الفرنسي، عقب وفاة فرانسوا ميتران عام 1995، إنه كان يقدر ميتران، ثم سرعان ما استدرك بأنه يعرف رغم ذلك أن هنالك من كان ينتقده لأنه كثيرا ما كان يحلّق عاليا في التجريد، أثناء المؤتمرات، توسيعا للسياق وعرضا لحقائق التاريخ ولفلسفيّ المفاهيم.
أما الرئيس ريغان الذي كثيرا ما يوصف في كتابات المحللين المحافظين بأنه كان أعظم زعيم أمريكي في النصف الثاني من القرن العشرين، فنعرف أن مارغرت تاتشر التي عاصرته في الحكم والتي كانت تشاطره المواقف الإيديولوجية ذاتها قد قالت عنه إنه لا يوجد شيء بين أذنيه. كما نعرف، خاصة من مذكرات رئيس موظفي البيت الأبيض السابق دونالد ريغن، أن هذا الممثل السابق كان يغفو أثناء اجتماعات البيت الأبيض وأن زوجته نانسي كانت تستشير منجّمة قبل السماح له بالسفر داخل البلاد أو خارجها. وقد سبق لنا قبل سنوات أن وصفنا ريغان علي صفحات القدس العربي بأنه كان محض حضور تلفزيوني في محض غياب ذهني اقتباسا من وصف المتنبي لممدوحه بأنه كان محض حِلم في محض قدرة .
وصول مثل هؤلاء إلي زعامة أكبر قوة في التاريخ البشري يطرح إشكالية الزعامة بإلحاح. ولهذا فقد صدر كتاب قيّم كرسه لهذه الإشكالية الكاتب السياسي جوزيف ناي الذي يعرف لدي الجمهور بأنه مبتدع مفهوم القوة الناعمة .