النوم حرام، والانفجار وشيك في غزة، رغم أن حديث التهدئة ـ حتي ساعة كتابة السطور ـ يبدو سيد اللحظة، ورغم أن الوسيط المصري يبدو متفائلا، ورغم أن إسرائيل وحماس أبدتا استعدادا لبحث كافة التفاصيل بما فيها صفقة الإفراج عن الجندي الأسير جلعاد شاليط.
أما لماذا يبدو الانفجار وشيكا، فلأن التهدئة لن تنجح، فليس هناك إرادة سياسية كافية في إسرائيل، ومشهد الحكومة يبدو مرتبكا، إيهود أولمرت ـ رئيس الوزراء الحالي ـ غارق في تحقيقات عن قضايا فساد منسوبة إليه، ويبدو مصيره الشخصي والسياسي معلقا وضاغطا علي أعصابه بشدة، صحته مهددة بسرطان البروستاتا، وسيرته ملوثه باتهامات رشاوي، وحكومته علي كف عفريت، وانسحاب خمسة ـ فقط ـ من أعضاء الكنيست كاف لإسقاطها، ووزراؤه الرئيسيون في حالة سباق وتصارع علي خلافته. تسيبي ليفني ـ وزيرة الخارجية ـ تتطلع إلي فوز باسم حزب كاديما ـ أو غيره ـ في انتخابات مقبلة، أو إلي اقتناص منصب رئيس الوزراء بالوكالة لو ساءت حالة أولمرت بأكثر مما هي عليه، وبنيامين نتنياهو ـ زعيم الليكود ـ يطالب بإجراء انتخابات عامة مبكرة، وظنه أنه الأحق برئاسة الوزراء، وأن إسرائيل تنتظر صقرا مثله، وإيهود باراك ـ زعيم حزب العمل ووزيرالدفاع ـ يري أنه الأجدر، فهو الجنرال الوحيد الباقي علي سطح السياسة الإسرائيلية.
وفي سباق الكبار الجاري لا تبدو التهدئة مع حماس ذات أولوية، بل العكس بالضبط هو الأقرب إلي الصحة، والكل يقدم نفسه باعتباره الأقدر علي هزيمة حماس، وليس التسوية معها، والتسليم بمطالبها، وهو ما بدا منظورا ـ باللفظ الصريح ـ في مجلس وزراء أولمرت، حاييم رامون ـ نائب رئيس الوزراء ـ هاجم بشدة ما أسماه مفاوضات غير مباشرة مع حماس عبر مصر، وقال: هكذا بدأنا مع عرفات، وربما ينتهي الأمر بدخول خالد مشعل ـ زعيم حماس ـ من الباب الرئيسي للبيت الأبيض، ودخل علي الخط موشيه أرينز وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، وهاجم أي تفاهم مع حماس، واعتبر أن إسرائيل خسرت المعركة مع حزب الله لأنها انسحبت من جنوب لبنان، وهو ما شجع ظهور الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وصعد بظاهرة حماس، واعتبر ـ في مقال بصحيفة إسرائيلية ـ أن اجتياح غزة هو الحل، وأن الخروج من غزة كان خطأ قاتلا.
ورغم أن فريقا من الكتاب والسياسيين الإسرائيليين طالب أولمرت ـ في نداء مفتوح ـ بالتفاوض مع حماس، إلا أن حمي التنافس علي وراثة أولمرت تشيع أجواء من المزايدة في السياسة الإسرائيلية، وتدفع أولمرت نفسه للإعلان عن هجوم عسكري جديد ضد حماس في غزة، وهو ما يلح عليه الجنرال إيهود باراك أكثر، وهو الذي دخل في مفاوضات مطولة مع عمر سليمان مدير المخابرات المصرية، ثم مع الرئيس المصري حسني مبارك علي هامش منتدي دافوس في شرم الشيخ، وبدا راغبا في وضع شروط مضافة علي مشروع التهدئة المصري، ورافضا لفكرة التزامن بين وقف الأعمال العسكرية ورفع الحصار عن غزة، وأعاد صياغة اقتراح التهدئة بصورة تجعله أدني إلي التعثر في التطبيق، وبحيث يتم وقف عمليات المقاومة وإطلاق الصواريخ مقابل وقف القصف الإسرائيلي، ثم يجري الانتقال إلي وضع رجراج مفعم باحتمالات انتكاس التهدئة النيرانية، ويضع الإفراج عن الجندي شاليط كشرط لرفع الحصار وفتح معابر غزة، ثم وضع اشتراطات بلا نهاية من نوع وقف تهريب الأسلحة إلي غزة عبر الأنفاق، ومن نوع خلق جهاز مراقبة للبضائع الداخلة إلي غزة.
والمحصلة: فرملة ما جري كله، وجعل إسرائيل حكما نافذ الرأي في مدي سلامة تطبيق الشروط، والعودة تقريبا إلي نقطة الصفر، هذا كله بافتراض أنه جري الاتفاق علي صيغة معقدة من هذا النوع، وكثيرة في تفاصيلها المسكونة بالشياطين، ومتعددة المراحل، وبحيث لا يكون إقرار المرحلة الأولي ممهدا بالضرورة للدخول في الثانية، ومع ضمان حق إسرائيل في إطلاق يدها العسكرية بلا رادع من اتفاق مقنن، وقد يصح أن نقول ان إسرائيل لم توافق علي اقتراح التهدئة المصري، وإنما ـ فقط ـ قبلت المناقشة فيه، ووضعت العصا في العجلات، وسايرت المسعي المصري حتي إشعار آخر، واحتفظت بحق نقض الاتفاق في أي وقت، فهي غير ملزمة ـ بحسب المناقشات التي جرت ـ بموافقة خطية في ذيل اتفاق تكون حماس طرفه الآخر، وتكتفي بإبداء الموافقة الشفهية لو تحققت مطالبها، ومقابل التزام خطي من الفلسطينيين يوضع في عهدة المصريين.
وهكذا لا تبدو نية إسرائيل ولا قرارها خالصا باتجاه أي تسوية مع حماس في غزة، بينما تبدو مدافع إسرائيل مستعدة، وحيرتها محصورة في نوع العمل العسكري لا في البحث عن تسوية بالسياسة، وهل تقدم علي اجتياح غزة أم تكتفي بضربة مكثفة وحملات اغتيال؟ فالسؤال الذي تطرحه إسرائيل الآن علي نفسها في غزة عسكري أكثر منه سياسي، وربما يرد الحديث عن تسوية بعد العمل العسكري وليس قبله.
وبالمقابل، لا تبدو حماس مستعدة لمسايرة الشروط الإسرائيلية إلي آخر المدي، فقد أخذت فكرة التهدئة ذاتها من مكانة حماس، وبدت كأنها تستجدي اتفاقا، وتدفع الفصائل الفلسطينية الأخري إلي الطريق ذاته، وبدت مستعدة لتراجع تدريجي، عرضت في البداية اتفاقا للتهدئة يربط الضفة بغزة، ثم تراجعت عن الارتباط المتزامن، وطلبت فكرة التهدئة في غزة أولا، وعلي أن يجري إلحاق الوضع في الضفة بعد ستة شهور لاحقة، ثم بدا أنها علي استعداد لحصر القصة كلها في غزة، فالحصار ضاغط، ويحتاج حلا سريعا، وهكذا جري حصر شروط التبادل والتزامن والشمول في غزة، وبدت صفقة وقف إطلاق النار والصواريخ مقابل رفع الحصار مغرية، وبعد أن انتهت حماس إلي بلورة اتفاق التهدئة، وجعلته وديعة لدي الوسيط المصري، بدت الفصائل الفلسطينية الأخري مستعدة لقبول الصفقة ذاتها، أبدي الرئيس عباس موافقته باسم فتح وسلطة رام الله، وكانت حركة الجهاد الإسلامي وحدها هي التي تحفظت، وإن وعدت بالالتزام حال دخول الاتفاق حيز التنفيذ.
لكن عدم نجاح عمر سليمان في الحصول علي موافقة ناجزة من إسرائيل، ووضع الأخيرة لشروط جديدة، جعل حركة حماس في موقف لا تحسد عليه، فهي لا تملك التراجع بالكامل ولا الموافقة بالكامل، ثم ان خلط الأوراق يزيد الحالة تعقيدا، فقد فشلت الوساطة المصرية في الوصول إلي صفقة بخصوص شاليط، تتضمن الإفراج عن الإسرائيلي الأسير مقابل إطلاق سراح مئات الأسري من الفلسطينيين، ولا يعقل أن يجري الاتفاق في أسابيع علي ما تعثر التوصل إليه في سنوات، وهو ما يعني أن تعود جولات عمر سليمان المكوكية إلي المتاهة ذاتها، فإسرائيل تريد خفض عدد الأسري الفلسطينيين المنوي الإفراج عنهم إلي أدني حد ممكن، وتريد إخضاع نوعية الأسري لمعاييرها، وتفرق بين أسري الاعتقال الإداري، وبين آخرين تتهمهم بالتخطيط أو المشاركة في قتل إسرائيليين، وتعتبر الأخيرين ممن لا يصح الإفراج عنهم، وهو ما يعني فتح باب الجدال المتصل في إسرائيل إلي ما لانهاية، خاصة مع ارتباك الحكومة، وتربص أولمرت بحلفائه المحتملين، ثم حرص الحكومة الإسرائيلية علي عدم الإيحاء بسهولة التوصل لاتفاق مع حماس، وفي ذات الوقت الذي تتعثر فيه المفاوضات مع عباس، ثم عدم رغبة عباس نفسه في تيسير اتفاق تل أبيب مع حماس، فالاتفاق الإسرائيلي ـ لو جري ـ مع حماس يضعف ما تبقي من نفوذ عباس فلسطينيا، ويقدم حماس كطرف قادر علي القتال وإجراء التسويات في الوقت ذاته.
تبقي حكاية الوسيط المصري، وجهود عمر سليمان مدير المخابرات، وهي محكومة ـ بطبائع الأمور ـ بسقف منخفض جدا، فلا تملك مصر فرصة الضغط علي إسرائيل، بينما العكس هو الأكثر ورودا، وكل ما يهم مصر الرسمية هو الخلاص من حرج غزة، ووسط تدافع امارات من عدم الرضا الأمريكي الكامل عن السياسة المصرية، وحرص الأخيرة علي استرضاء إسرائيل لكسب عطف أمريكي يتداعي، وهي ظروف معقدة لا تسمح للوسيط المصري بأكثر من دور ساعي البريد ، وقد تعول حماس علي تعهد مصر بالفتح الكامل لمعبر رفح لو تعثرت جهود التهدئة، وهو ما لا نظن أن مبارك قادر عليه، وأفضل ما يمكن أن يفعله هو فتح جزئي للمعبر، وهو ما قد يعني استدامة المشاركة المصرية عمليا في إحكام حصار غزة.
المحصلة ـ حتي إشعار آخر ـ عودة إلي نقطة الصفر، وانفجار آلام المحاصرين في غزة، وانفجار العدوان الإسرائيلي بأعنف مما جري من قبل.