العنصرية كالجريمة، لا جنسية لها، وكذلك الحرية والديمقراطية، رغم التناقض الحاسم بين هذه المفاهيم، ورغم أن الرجل الأبيض احتكر العنصرية زمناً، كما يقول مايكل مور، إلا أن هذه الآفة التاريخية لم يسلم منها الأسود والأصفر والحنطي، خصوصاً بعد أن اتضح علمياً ان التخلف والتقدم ليسا من الطبائع البشرية الثابتة، فالهند مثلاً التي كان الغرب الكولونيالي يختصرها في مهراجا ورعايا وقطعان بشرية، برهنت على العكس من ذلك، والشرق الأقصى الذي سجن لزمن طويل في زنزانة من الأساطير والطقوس الوثنية ودولة الاستبداد لم يعد كذلك.
لهذا فالعنصرية هي أيضاً بالألوان، وتزدهر في فترات يصاب بها البشر بحالة من العصاب العرقي الوبائي، لكنها تنحسر وقد تتلاشى في ظروف حضارية صحية، وفي عالم متكافئ، لا ترجح فيه كفة أحد على أحد إلا بإنجازه الإنساني والمعرفي.
والمشهد في جنوب إفريقيا يقدم الشيء ونقيضه، وعنصرية البيض انتقلت عدواها إلى بقية الألوان، وهذا ما دفع الرئيس الجنوب إفريقي إلى القول بإنه يشعر بالعار بسبب ما حدث من انتهاكات لمصائر بشر لا ذنب لهم، سوى أنهم ينافسون السكان على فرص العمل.
قبل قرنين، كانت العلوم الاجتماعية والانثربولوجيا تسخّر لخدمة استراتيجية الاستعمار والتمدد الامبراطوري للسطو على ثروات الشعوب، لكن سرعان ما وجدت تلك الأطروحات من يفندونها ويدحضون الحجج التي تتأسس عليها، لأنها ليست عملية على الإطلاق.
ومن أغرب المفارقات في التاريخ الإنساني، أن ضحية العنصرية قد تتقمص جلادها، وأن المظلوم قد يتحول إلى ظالم، فما من ضمانات أو بوليصات تأمين لضبط الحدود، ما دامت الثقافات تتحول وتتطور، وقد تجد من يدسون السم في دسمها كي تبرر الشرور، فالتاريخ لم يكن كله خيراً خالصاً ومحرراً من الشوائب، وكذلك الثقافات والمفاهيم، فوراء كل قيصر أو امبراطور أو قرصان من يسعى إلى تبرير ما يقترف هؤلاء من جرائم، وقد نجح بعض المحترفين في فقه التضليل في قلب الحقائق، وتحويل الحق إلى باطل والعكس أيضاً، فالنازية مثلاً لها فلسفتها القابعة وراء الكواليس السياسية والعسكرية، والصهيونية أيضاً لها دهاقنة يبررون، ويحولون الرذائل إلى فضائل.
أما وصف شعب أو أمة ما بالعنصرية أو الشر الخالص، فهو أمر ينافي العلم ولا يصمد أمام الاستثناءات التي تجرح القاعدة بدلاً من أن تكرسها.
والغرب الذي يرى العالم خارج نطاقه الجغرافي والحضاري مجرد برابرة، عانى في القرون الوسطى من بربريات وحشية لا حدود لها، وقد يكون للشعوب التي سخر منها واستخف بها وامتص دمها الفضل في تحريره من تلك الظلمات، والعالم يقدم يومياً أمثلة ومشاهد تؤكد أن العنصرية لا جغرافيا أو تضاريس لها، فهي عابرة للحدود، وللهويات واللغات، تماماً كما هو الوباء عابر لكل الحدود إذا استشرى وتفاقم.
فالمسألة إذن ثقافية أولاً وأخيراً، وما من سبيل إلى تحرير الإنسان مما يستوطن عقله وذاكرته من المفاهيم الخاطئة غير إعادته إلى الرشد من خلال تقويم الوعي، وتلك هي مسؤولية النخب المثقفة، أما إذا ارتهنت هذه النخب لشروط العنصرية وثقافتها العمياء، فإن على هذا الكوكب ومن يعيشون عليه السلام.