في محاولة لستر السياسة المصرية برداء غير ردائها، وإلباسها قناعا يخفي قبحها وبشاعتها، تحاول أقلام وأبواق إضفاء مسحة من الوداعة والرحمة عليها، وتمت هذه المهمة بمفردات منتقاة من قاموس النفاق وبما تجود به مخيلة المداحين. فتدعي زورا وبهتانا الحرص علي محدودي الدخل والفقراء وانحيازها لهم، وقد تتخدر نفوس جراء المديح الزاعق. لكن سرعان ما يصدمها الواقع وتفيق من تأثيره.
ومن يمارس هذا النوع من الإفك هو نفسه من هيأ المناخ لـ شرعنة الفساد ووفر الغطاء اللازم لانتشاره كمنظومة لها الكلمة العليا في حياة المصريين ومماتهم. وطالت كل شيء، وبها أضحت مصر، أرضا وجوا وبحرا وبشرا، تراثا وعقارا قابلين للتصرف بالملكية والهبة والبيع، لمن يدفع. وللتذكرة فهذه السياسة هي التي أدارت ماكينة التعذيب، دون تفرقة بين مواطن وآخر، وحولت مراكز وأقسام الشرطة والمعتقلات إلي سلخانات وأقبية للتنكيل والموت، ورغم الحديث عن الانجازات والمشروعات فأغلب المصريين لا يعترفون إلا بانجاز وحيد وملموس علي مدي السنوات الثلاث الأخيرة. ذلك هو القالب المستحدث (نيولوك) لهيئة وشكل حسني مبارك. ضمن خطة تغيير سعي إليها الرئيس الابن، وتمت برعايته ومساعدة أعضاء لجنته (لجنة السياسات)، ويبدو أنهم كانوا يرون في الهيئة السابقة والشكل القديم ما يقلل من قدرهم، كأقطاب في عالم المال والأعمال، وكان من الطبيعي أن يواكب هذا الانجاز استبدال السياسة بنشاط العلاقات العامة، من أجل التلميع والتجميل. ولم يأت هذا بنصيحة الحرس القديم، ولا برغبة مستشاريه التقليديين، فقد كان المطلوب أن تكون الهيئة والشكل علي هوي الحرس الجديد ورغبته.
وبالقالب الجديد دخلت مصر انتخابات رئاسية وتشريعية، كانت الأسوأ في تاريخها، وحشرت في نفق شديد الإظلام. لم تكن معركة انتخابية، بل كانت تكسير عظام . لعبت البلطجة فيها دورا بارزا، وإذا كان القالب الجديد من أجل أن يبدو مرشح الحزب الحاكم الكهل، في شيخوخته، أكثر صحة وجاذبية. تبريرا للاستمرار حتي النزع الأخير. والاهتمام بالهيئة والشكل كشف مستوي الإفلاس الذي وصلت إليه السياسة الرسمية، وزادت تداعيات الإصرار علي البقاء والتوريث صورة الحكم اهتزازا. وجعلت من الرهان علي الزمن في حسم أزمة الحكم، ولانهاك المصريين، مما يضطرهم للتسليم بالأمر الواقع والقبول بالابن وريثا للأب، وسوف تثبت الأيام أنه رهان في غير محله، ومن يريد التأكد فعليه استطلاع رأي أي فئة أو جماعة، ويتعرف علي موقفها من حكم عائلة مبارك ، فسوف يجد أنها مرفوضة. وذلك بدءا من البسطاء، وحتي أكثر الناس علما ووعيا وحكمة. وهذا التغيير في الهيئة والشكل أدي إلي تغيير آخر، أكثر خطورة، له علاقة بمنصب الرئيس ومقام الرئاسة المصرية، فإضعاف هذه المؤسسة ذات الشأن، تدني بمقام الرئاسة. ونزل بها من سمو السلطة السياسية الأعلي إلي انحدار الشركة التجارية الأدني. وإضعافها من قبل أناس هم أقرب للغرباء، وأشبه بالمستشرقين، وبنفسية الوافدين، حتي ان ذوي الأصول والأنساب العادية نسوا أصلهم وفصلهم وبيئتهم، وكان ذلك مصدر فخر لمن سبقهم من الحكام. ومثلت الفترة الخامسة لحكم حسني مبارك ولادة جديدة، استقرت فيها ازدواجية السلطة، وتصارع أطراف الحكم. فالشكل شكل الأب، والفعل فعل الابن، والنفوذ نفوذ الأم. وتحول الحكم الرسمي إلي حكم أهلي. وبين الشكل والفعل والنفوذ ضاعت المسؤولية وتاهت الدولة.
إن من تحلقوا حول الابن لا علاقة لهم بالناس، ولا يفقهون شؤونهم، وأعجز عن التعرف علي مشاكلهم وما يدور بينهم، وتحولات السنوات الأخيرة من الوضوح الي الدرجة التي أيقن معها كثيرون بأن هؤلاء مصابون بكل أنواع عمي البصر والبصيرة. ولم يعلموا حتي الآن بأن مصر، فيما قبل ثلاث سنوات، غيرها حاليا، بلاد تتحرك في كل اتجاه، ومستقبلها مفتوح علي كل الاحتمالات، وشعبها طلق الصبر والتحمل، ونفض عن نفسه غبار الهدوء والسكون، فقرر الدفاع عن نفسه وعن مصالحه. تعددت أشكال التحرك، وتنوعت صور الحراك، الاجتماعي والسياسي والثقافي والشبابي، وبقدر ما اتسعت دوائر هذه الأشكال والصور وتنامت، بقدر ما تراجعت قوة الحكم وانكمش نفوذه وانحسر تأثيره، ووصل إلي مرحلة فقد فيها مبرر استمراره. والنهج الاستشراقي، بغرابته، من أهم أسباب تآكل شرعية حكم حسني مبارك، وترتفع هذه الأيام أصوات تطالب برحيله، وأخري تطالبه بإلغاء لجنة السياسات، بدعوي إنقاذ ما يمكن إنقاذه! وإحساس المصريين بغربة هؤلاء دفع بهم للتعامل معهم بنفس طريقة آبائهم وأجدادهم، في مواجهتهم لقوات الاحتلال، وأخرجت الذاكرة الجماعية والتاريخية ما في باطنها لتكون زادا في المواجهة والتصدي.
كان ذلك جزءا من مشهد الموالاة وأنصار الحكم، أما علي مستوي المعارضة، فقد بدا الوضع، للمراقبين عن بعد، ملتبسا. لوجود جماعات وأحزاب مرخصة، لكنها ضعيفة وتبدو غائبة عن المشهد، وصارت كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقي ، لأنها قبلت بحصار الحكم لها، وعجزت عن التجاوب مع الحراك الوطني. واستقرت كشيء شكلي باق يمنح الحكم قدرا من الشرعية. وفقد المصريون ثقتهم بها، وانفض كثيرون من حولها. وهناك معارضة مختلفة، تتوزع بين المحظور وغير المرخص و المجمد والملغي. أطرافها الإخوان المسلمون، وحزب الوسط الإسلامي، وحركة الكرامة العربية، وحزب العمل المجمد، وحزب الغد (أيمن نور) الملغي، والجماعات الجديدة. المكونة من الحركة المصرية للتغيير كفاية وأخواتها. منها ما يسعي للحصول علي ترخيص حكومي، ومنها ما لا يسعي، كالإخوان المسلمين وحركة كفاية، ومن سعي من السياسيين قوبل بالرفض، ووحد هذا الرفض بينهم وبين غيرهم، وربطت بينهم مصيبة الابتلاء بحكم عائلة مبارك . ولا يصنف هذا النوع في خانة المعارضة بمعناها التقليدي أو الليبرالي، لأنها ترعرعت وكبرت خارج الرحم الحكومي، وبعيدا عن أحضان السلطة، فجاء ظهورها نقيضا ونقضا للحكم، في وقت عجز فيه الغرباء والمستشرقون عن فهم هذا. وهذه المعارضة بدت قادرة علي إشعال النار تحت أقدام الحكم ورجاله، وكلما ووجهت بالعنف ازدادت صلابة وقوة.
وحكم فيه هذا المستوي من الغباء يتعامل مع القانون بطريقة أرباب السوابق ورجال العصابات، حرابه دائما مشرعة في وجه الجميع، وهي حراب وفرها قانون الطوارئ، ومآسيه ضد الشعب وأهل الحكم سواء. جلب عدم الاستقرار والعشوائية، وقوي من عضد البلطجة، ومنحها حماية، واستخدمها في أعماله القذرة. وغاب القانون الطبيعي بالدرجة التي استفزت السلطة القضائية، فكانت وقفتها الكبري، بشكل اشعر الحكم بخطرها عليه، ولتحجيمها اعتمد علي القضاء العسكري، للحد من دور القضاء الطبيعي والتقليل من وزنه. وجاءت الإجراءات الاستثنائية والقرارات العائلية لتمنح الانجال والزوجات صلاحيات وسلطات فوق القانون وفوق الحكم والدولة. ونشأ عن ذلك خطران داهمان. الأول هو خطر انتقال الحكم من الاستبداد الفردي إلي الفاشية العائلية، كطريق للتوريث، والخطر الثاني هو رأس المال وسيطرته علي الحكم، وتمكين رجال المال والأعمال من توجيه دفة القرار الاقتصادي، بما صحب ذلك من عقاب جماعي لغالبية الشعب، خاصة قواه الأكثر احتياجا للدولة ودعمها ورعايتها، وانتهي الأمر باختطاف الدولة وانتزاعها من أيدي أصحابها الشرعيين.
وحين عم اليأس وظفته السياسة الرسمية المصرية لترسخ به قناعات تبرر وجود الفساد، كضرورة ملازمة لتكوين الثروة والنفوذ والحكم، ولا سبيل أمام الطالب إلا الاندماج في منظومته والعمل وفق قوانينها. لكن الشرفاء يثبتون دوما أن اليأس ظاهرة موقوتة وطارئة، تتراجع أمام وعي الشعب ورغبته في التغيير، وهذا ما يولد، في حد ذاته، إمكانيات جديدة تؤدي إلي حصارها والتضييق عليها. والنخب الحاكمة التي علي شاكلة ما هو موجود في مصر أدني من فهم نفسية (سيكولوجية) الجماعات والشعوب، أو استيعاب ما يعرف بالنفسية العامة، وهذا دعاها إلي تفسير قدرة المصريين علي الصبر والتحمل بأنه قبول بالرضوخ والذل، بشكل جعلها تستعير طرائق الاحتلال في معاملة الشعوب المحتلة، فأدارت المجتمع بنظام القطيع، وعاملت المبادئ والقيم الإنسانية كسلع. قابلة للتعليب، وذلك عوضا عن الاتصال المباشر بالناس، وما لم يتحقق بالتجارة والشطارة تكفلت به آلة الأمن الباطشة. فبقي الاستبداد واستمر الظلم ودام الفساد، وفي كل هذا ينحون باللائمة علي الناس، وعندما سئل رئيس الوزراء كيف يصل النمو الاقتصادي إلي 7% ولا يؤثر ذلك علي مستوي المعيشة أو ارتفاع الدخل؟ كان الرد أن العيب في الناس لأنهم لا يشعرون بذلك!
وبعد التجريب والتخريب اكتشف المصريون أنهم يعيشون خدعة كبري، أشعرتهم بأن تصرفات كبار المسؤولين والحكام ترقي إلي مستوي الخيانة العظمي. وبدأ القلق يساورهم من خطر هؤلاء علي البلاد ومستقبلها، ومما يمكن أن يحدث من جراء انفجار عشوائي لا يبقي ولا يذر، وهنا ظهرت الحاجة إلي عمل نوعي يقوم علي أوسع مشاركة ممكنة من الناس، وحملت جماعات معارضة وأحزاب تشكلت خارج رحم الحكم عبء هذه المهمة. وأحدثت صحوة، حل فيها الخطاب الجامع محل لغة الفرقة والاستكانة والاستسلام، وبدأت دعوات الإضراب والخروج تشق طريقها، تتقدم في موقع وتتعثر في آخر. إلي أن يتمرس الناس علي الفعل المؤثر، ويخرج من بينهم من يقودهم صوب التغيير القادم، حيث من المتوقع أن يكون الهدف هو القصر الجمهوري، والاعتصام أمامه حتي يفتح باب التغيير، وذلك برحيل زمرة الفساد والاستبداد والتبعية، والملفت للنظر أن اتساع دوائر الحراك الوطني أدي إلي تراجع صور الانقسام، خاصة الانقسام الطائفي! أليس هذا غريبا؟