المسرفون على أنفسهم من أبناء المسلمين لا يشغلهم إلا الإساءة إلى إسلامهم، واتهامه بشتى الاتهامات، وتلويث سمعته بما يعجز أعداؤه عن مثله ولا ندري ما السبب، فهل السبب هو عدم حبهم للالتزام، والانصياع لأوامره ونواهيه؟ إن كانوا كذلك فلا عليهم لم يطالبهم أحد بهذا الالتزام، ولم يحاسبهم على التفريط فيه، وأمرهم إلى الله إن شاء غفر لهم وإن شاء عذبهم، ولن نشغل أنفسنا بهذه القضية، ولكن الذي يشغلنا هو تعديهم على الإسلام، وتوجيه الشتائم إليه إرضاء لمن يدينون لهم بالولاء، ولا يرون نهضة ولا تقدماً إلا وفق منظورهم هم لا غيرهم. ومن هؤلاء المسرفين على أنفسهم نشر كاتب في جريدة محلية مقالا بعنوان: «خرافة أمة العرب الواحدة: إشكالية اللغة والانتماء«، وكال في هذا المقال الشتائم للعرب، وحاول الحط من شأنهم.
بدأ الكاتب هجومه الشرس بأن قال: «نرى ان العقل العربي البدوي الذي لا يموت له ميت كما تقول الأمثال، والذي يستهويه الفخر بالنسب والأجداد، يحاول أن يتصابى فكرياً وثقافياً، ومازال منشغلاً عن كل هموم الأرض بروابط الدم، ووشائج القربى، ويرطن بفكرة واهية وخرافية حول أصالة الانتماء« (الأيام/ ص 20). هكذا صار العقل العربي البدوي عقلا خرافيا يرطن بفكرة واهية، والفتح الإسلامي الذي تزهو به الحضارة الإسلامية، وطالما أشاد به المنصفون من كتاب الغرب ومفكريه يراه الكاتب احتلالا عربيا بدويا لا يختلف ــ في رأيه ــ عن الاحتلالين الروماني واليوناني. فالكاتب لا يرى فرقا جوهريا بين الاحتلالين الروماني واليوناني والفتح الإسلامي الذي كان يحمل معه روح التسامح والرحمة وكان يرفع عن أهل البلاد المفتوحة الاغلال التي تكبل حركتهم، وتحد من حرياتهم في اختيار ما يشاءون من عقيدة، ولهذا وبسبب التسامح الإسلامي بقي في البلاد المفتوحة من أهلها من آثر البقاء على دينه ولم يجبره المسلمون الفاتحون على تغيير عقيدته، والتنكر لعاداته وتقاليده الدينية. وفي مقابل هذه الرؤية الشاذة والموالية لأعداء الإسلام نقدم لك عزيزي القارئ رسالة موجهة إلى المؤتمر المسيحي الشهير الذي عقد في بكركي في لبنان في التاسع من ابريل 1985م رسالة أرسلها لبناني ماروني إلى المؤتمر في بكركي، جاء فيها: «أنا اللبناني الماروني من من عرامون قضاء كسروان، أرجو أن تسجلوا عندكم ما يلي: إنني عربي الانتماء والوجدان والأصل والمشاعر والمصير. إني متضامن التضامن الكامل مع العرب والمسلمين المضطهدين في الوطن الصغير والوطن العربي الكبير في العالم. وإني متمسك بوحدة الآلام والآمال والمآل، مع اخوتي في العروبة، أيا كان دينهم ومذهبهم. وإنني أرفض تمام الرفض كل محاولات استلحاق العرب النصارى بالغرب أو بربيبته إسرائيل. واعرب عن إيماني أن الحضارة العربية التي يشكل الإسلام الثقافي والحضاري عمودها الفقري ومفخرتها التاريخية، هي حضارتي وحضارة أجدادي وأولادي. وأؤكد ان الخطر الذي يستبد بمصائر المسيحيين في لبنان، هو خطر ناجم عن محاولات استلحاقهم بالغرب وأدواته. وأن لا خطر على العربي المسيحي على الإطلاق، إذا أعرب بلا تردد عن عروبته غير الملتبسة، ولا المشروطة. وأُعلن رفضي أن أتحول وأولادي إلى كلاب حراسة لإسرائيل، أو أكياس رمل على جدارها «الطيب«. وأدعو كل الذين كممت أفواههم في السنوات العشر الماضية، من المسيحيين الذين اختطف قرارهم، واتخذ زيد وعمرو صمتهم للتحدث باسمهم، أدعوهم إلى رفع الصوت تداركا للالتباس، ومنعا للاتجار في جلود أبنائهم ومصائرهم. أدعو كل المسيحيين إلى إعلان لا غموض فيه ولا تردد ولا خوف، لأن الخوف اليوم أضحى خوفاً من الصمت، أدعوهم إلى إعلان عروبتهم، وعدائهم لإسرائيل وتقديسهم للمقاومة الوطنية المجاهدة البطلة، واستعدادهم لافتداء هذه العروبة بالدم والمال وكل ما ملكت أيمانهم. يا أصحاب المؤتمر في بكركي: سجلوا ما سبق في مقرراتكم، أو اشطبوا اسمي، ولا تحتسبوني وأولادي فيمن تمثلون« (من كتاب: من يحمي المسيحيين العرب؟/ فيكتور سحاب/ دار الوحدة للطباعة والنشر/ ص 6 ــ 8). انظر عزيزي القارئ الفرق الشاسع بين هذه المشاعر الفياضة، والانتماء العميق للعروبة قومية، وللإسلام ثقافة وحضارة، ومشاعر ذلك الكاتب الذي انسلخ عن عروبته واعتبرها خرافة ووهما، وذمّ الفتح الإسلامي الذي فتح القلوب قبل الديار، وأفاء على أهل هذه الديار من تسامحه ورحمته ورفقه ما جعلهم يرحبون بالفاتحين ويثقون بهم وبعدالتهم وتسامحهم. ويؤكد الاستاذ فيكتور سحاب في كتابه «من يحمي المسيحيين العرب؟« أن الاضطهاد الذي تعرض له المسيحيون العرب لم يكن في يوم من الأيام على يد المسلمين بل كان على يد البيزنطيين والصليبيين والأوروبيين (ص 11 ــ 18). ثم يتساءل الاستاذ فيكتور سحاب في الكتاب نفسه وفي الفصل الثاني عن: مَنْ يحمي مَنْ.. المسيحيون العرب أم الغرب؟ ويقدم الأستاذ فيكتور سحاب شهادة الدكتور ادمون رباط حول نظام أهل الذمة. يقول الدكتور ادمون رباط عن نظام أهل الذمة في الإسلام بالحرف الواحد: «من الممكن، من دون مبالغة القول إن الفكرة التي أدت إلى انتهاج هذه السياسة الانسانية (الليبرالية) - إذا جاز استعمال هذا الاصطلاح العصري - إنما كانت ابتكاراً عبقرياً، وذلك لأن المرة الأولى في التاريخ انطلقت دولة، هي دينية في مبدئها، ودينية في سبب وجودها، ودينية في هدفها، ألا وهو نشر الإسلام عن طريق الجهاد بأشكاله المختلفة، من عسكرية ومثلية وتبشيرية، إلى الإقرار في الوقت ذاته بأن من حق الشعوب الخاضعة لسلطاتهم أن تحافظ على معتقداتها وتقاليدها وتراث حياتها، وذلك في زمن كان يقضي المبدأ السائد فيه بإكراه الرعاية على اعتناق دين ملوكهم«. «من يحمي المسيحيين العرب؟ (فيكتور سحاب/ ص 26)«. هذان موقفان لاثنين من العرب: واحد ينظر إلى العروبة بأنها خرافة وليس لها نصيب من الواقع وينظر إلى الفتوحات الإسلامية فيصفها بالاحتلال البدوي، ورجل آخر يرسل رسالة إلى مؤتمر مسيحي ليسجل موقفه من العرب ومن الإسلام ويشيد بتسامح الفاتحين المسلمين مع أهل البلاد المفتوحة. سوف أترك الحكم لك عزيزي القارئ بعد أن بسطت لك القول وبينت لك موقف صاحب مقال «خرافة أمة العرب الواحدة: إشكالية اللغة والانتماء« الذي نشره في صحيفة (الأيام) الثلاثاء 22/4/2008م، وموقف صاحب كتاب «من يحمي العرب المسيحيين؟« الأستاذ فيكتور سحاب وما قدمه من شهادات مسيحية عن انتمائهم إلى العروبة وحبهم للإسلام ثقافة وحضارة وأنهم لم ينعموا بالأمن والأمان إلا في ظل الحكم الإسلامي لبلادهم.