لا يتمخض المدى المنظور عن ورشات العمل الفكرية التي تحرض العقل السياسي العربي على المزيد من الحراك الذهني الفاعل، لكن مجرد تداول الاسئلة وإعادة صياغة بعضها، حتى لو صنّف في درجة أضعف الإيمان، من شأنه أن يلقي المزيد من الحجارة في البئر، لأن حالة الاستنقاع طالت، وتعددت عوامل إدامتها، لهذا تبدو الآن كمن يسدد ديوناً، فما كان جديراً بالقول والمساءلة قبل نصف قرن تأخر عن موعده، لكن الأوان لم يفت بعد، لأن الحراك الذهني والسجال حول المفاهيم ليسا مقترنين بوقت محدد، شرط أن تكون المراجعة جذرية وتطال المسكوت عنه في الوقت الرمادي، الذي كان كل شيء فيه مؤجلاً لمصلحة معركة لم تحدث، وإن كانت قد تحولت إلى مشجب تعلق عليه خوذات الجنرالات العاطلين عن الحروب، وذرائع التنابلة الذين يفتنهم الجدل البيزنطي، لأنه يعفيهم من أية أعباء ولا يطالبهم بترجمة ما هو نظري ومجرد إلى أفعال وممارسات.
إنها فترة مخاض عسير بامتياز، وإن كنا نخشى من القابلات المحترفات اللواتي يخنقن الأجنة في الأرحام أو يستبدلن المواليد ويخلطن الأنساب.
محوران أساسيان يدور حولهما الكلام السائد الآن، الأول هو حالة الارتهان وغياب المبادرة، والثاني الهوية التي تهددها ثقافة التعويم، وتحويل الجماعات البشرية إلى كتل ديموغرافية صمّاء.
المحور الأول لا يبدأ من أول السطر تهرباً أو فراراً من تسمية الأشياء بأسمائها، خصوصاً بعد أن فقدت المفردات السياسية مضامينها، وأصبحت حمالة أوجه، كما يقول البلغاء.
والمحور الثاني قد يضاعف من التباس مفهوم الهوية من حيث يتصور أنه ينتجها، لأنه يتورط بمناهج قاصرة معرفياً تحذف كشوفات علمي النفس والاجتماع لمصلحة عناوين فوسفورية، يقال تحتها كل شيء كي لا يقال شيء محدد.
وهذه حيلة جديدة ابتكرها الاخصائيون في فقه التبرير، والذين يلبسون لكل حالة لبوسها.
لقد انهمك المثقفون العرب خلال العقدين الماضيين في ردود أفعال حول أطروحتين أفرزتهما الرأسمالية في ذروة توحشها، الأولى حول نظام عالمي جديد.
والثانية حول أدْلجة الصراع بين الحضارات والثقافات، وعزلها عن المفاعيل الانسانية التي تشكل قاسماً مشتركاً بينها.
ولم يقدم المنهمكون في ردود الأفعال تلك أطروحات مضادة قادرة على اقناع العالم بأن الحقيقة لا يحتكرها الأقوياء أو من يمتلكون الميديا وسحرها وأسرارها، لهذا قد يبدو المرء كما لو أنه يؤذن في جرّة أو يصرخ في علبة، لأن أدوات العمل ووسائل التعبير محكومة بالمراوحة في النطاق المحلي.
وأخطر ما يهدد ورشات العمل الفكرية الآن، رغم وفرتها في العواصم العربية، هو تحول المونولوج إلى ديالوج، بحيث يتلذذ المشتغلون في هذا الميدان بسماع أصداء أصواتهم فقط.