لو أتيح لتولستوي أن يعيد كتابة روايته الحرب والسلام في مطالع هذه الألفية الثالثة لتنكر لطبعتها الأولى، لأن ثنائية الحرب والسلام في أيامنا وتبعاً للمعاجم المعقمة الحديثة، هي من طراز غير مسبوق، ولم يعرفه التاريخ من قبل، فالسلام حرب والحرب سلام، وما بينهما ليس مجرد هدنة أو استراحة يعاد فيها شحذ الأنياب، فالأقوياء الذين استطاعوا اخضاع الضعفاء لتقاويمهم وأجنداتهم ورياضياتهم الجديدة حولوا السلام إلى حرب مضمونة الغنائم، وما كانوا يحققونه بالحروب أصبحوا يحولونه إلى استحاقات بوسائل أخرى.
وإذا كان السجال الدائر حول ما يسمى ثقافة الحرب وثقافة السلام يستقي أدبياته من فترة شاذة واستثنائية في التاريخ، فإن المبشرين بنهاية التاريخ عقدوا رهانهم على جعل أحادية القطب أبدية، لهذا فالتاريخ يبدو بالنسبة إليهم في عطلة طويلة، تتيح للغالب أن يستثمر انتصاره حتى النهاية، ويفرض على المغلوب أن يجتر لعابه المرّ حتى النهاية أيضاً.
والمقصود بهذا الخلط المتعمد لكل الأوراق وحذف الحدود حتى لو كانت مجرد شعرة بين النقائض هو تدشين حقبة جديدة من التاريخ البشري يودع فيها الإنسان إرادته ومناعته وكل ما جعل منه آدمياً ذا امتياز وجودي وأخلاقي في هذا العالم.
وأسوأ ما ورطتنا به المقتربات الإعلامية المسطحة للظواهر المعقدة هو ترسيخ عادات ذهنية تحول كل شيء إلى امتداد أفقي بحيث أصبح الناس يضجرون من التحليل المعمق حتى لقضايا تمس رغيفهم اليومي وأمنهم الوطني وهوياتهم المهددة.
ولو سلمنا ولو على نحو إجرائي بما يقوله فلاسفة الحضارات فإن مراحل التحلل تشمل المعيار الأخلاقي أيضاً، ويصبح الدمار سياقاً بنيوياً لا يسلم منه حتى الرضيع.
فالتخلف له قوانين نمو كالتقدم تماماً، ومن التبسيط التعامل معه كركام لا يقبل الإحصاء لهذا فإن النظر بقليل من التفاؤل إلى الغد ليس حكراً على من يحترفون النبوءات، لأن الاستنتاج المنطقي يفرض على الإنسان وهو يستقرئ هذا الواقع ان يتوقع الأسوأ لأن العوامل التي تفضي إليه تفرض ذلك.
وبعيداً عن منطق المعجزات والخوارق، فإن متوالية الأحداث عندما تكون باتجاه الهاوية لا ينفع معها الرجاء الساذج أو ما يسمى التفكير الرغائبي والاسقاطات، بحيث لا يرى الإنسان غير ما يريد ولا يسمع إلا ما تشتهي أذنه أن تصغي إليه.
ما جرى في العراق ولبنان وفلسطين قبلهما لم يكن بحاجة إلى مجهر، فالعين المجردة كانت ولاتزال قادرة على الإحاطة بالمشهد من كل زواياه.
وما تفاقم من الداء في العوالم السفلية للأفراد والجماعات، كان يمكن استدراكه أولاً بأول لو توفرت العناية الصحيحة وأخذت الأعراض المبكرة على محمل الجد.
إننا ندفع الآن أثمان صمت ولا مبالاة استمرا عدة قرون والآخر الذي ننظر إلى كل ما يصدر عنه بارتياب كان متفرغاً لقراءة وتحليل كل خلية من خلايا وجودنا، لهذا كان الخلل جذرياً في حجم وجدية الاستجابات للتحديات
ولم تكن ردود الافعال على قدر الافعال ولا يمكن لأي عاقل أو أي حاسوب حتى لو لم يكن ذكياً أن يقبل بسلام له كل هذه الغنائم، أو بحرب تبدأ وتنتهي من طرف واحد.