غد، تكون الثقافة العربية قد أثقلت بسلاسل الهزيمة، وتكون العواصم التي ظن المفكرون العرب أنها تشكل لهم (عواصم نور وفضاءات) قد رفعت كل شيء حتى الرقبة، وانشغلت بما هي فيه، بعضها تعاني من حروب القطط السمان، وبعضها تعاني من النعرات الطائفية، وبعضها تخضع للإرهاب بكافة أشكاله، وبعضها تتكئ على وسائد مخملية، تستسلم للآخر، تحاوره من منطلق (حضاري)، تناقشه انطلاقا من ثقافة (السلام)، وتنفتح عليه انفتاحا بلا حدود، مختبئة خلف مقولات التفاعل الثقافي، والعولمة، والرضوخ لمنطق الأمر الواقع.
بعد غد، يكون العالم العربي قد تراجع ستين سنة إلى الوراء، ويكون الآخر قد تقدم ستين سنة إلى الأمام.
بعد غد، تكون المكتبة العربية قد مارست أعتى أنواع الكذب على الأجيال، فمصطلحات الوطنية قد شاخت، والملامح الخصوصية قد ذابت، والمستقبل انضم للماضي، والحاضر قوم سكارى وما هم بسكارى.
بعد غد، يحتفل قوم على مرآى من نكبتنا، يرتعون في بيوتنا، يحتسون قهوتنا، يتناولون طعامنا، يتنفسون هواءنا، يرتدون أزياءنا، يرقصون على أرضنا، يرفعون أعلامهم في مدى أبصارنا وبصيرتنا، يستظلون بأشجارنا، يمرحون تحت مطرنا، بينما نحن نصادر أفكارنا، نكفر شهداءنا، نأكل لحم أخوتنا، نتآمر على دمنا، نجتر كلامنا في السر والجهر، ننافق في المحافل وعلى شاشات الفضائيات، ونعرض أنفسنا للبيع لكل من يعدنا بسد رمقنا، وقتل عطشنا وإنارة ظلماتنا، لأن قضيتنا باتت ( توفير لقمة العيش والبنزين والإنارة)، بل بعنا أنفسنا، حرقنا سفننا، حتى بات التراجع هزيمة، والتقدم خيانة، والمراوحة في المكان ذاته عربدة.
بعد غد، سنحيي الذكرى بملصق يحمل مفتاحا، بنشيد وخطبة ببدلة رسمية، وربما قصيدة على استحياء، ولا أحد يصرخ: سجل أنا عربي، لأنها تحمل لغة مباشرة وخطابية، ولا تنطبق عليها المدرسة التفكيكية ولا البنيوية!!
بعد غد، يكون الجيل الثالث للنكبة قد نسي أصله، ولغته، وتاريخه وتراثه، وأدبه، وزيه، وفقد بوصلته، وصار عدوانيا بما يكفي كي يلطم شاب أباه أمام الملأ.
بعد غد، تكون الأمة صارت أمما، والثقافة العربية صارت ثقافات، وسرطان الشوفينية والعنصرية قد استشرى في جسد القومية، والمذهبية تكون قد حققت انتصارات على العقيدة الأصلية.
النكبة جذورها ثقافية، وفروعها اجتماعية، وأوراقها تاريخية، ورغم ذاك، يعلو صوت السياسي وباستمرار على صوت المثقف، وتعلوا الأسر ( العريقة) على الفقراء، وتتساقط أوراق التاريخ ذابلة.
هي مرثية نعم، بكل نحيبها وجنازاتها وطرقها المقفلة، هي فجيعة نعم، بكل شخوصها ورموزها وحالاتها.
بعد غد، قلة سيعرفون معنى مرور ستين عاما على جمر المنفى.
بعد غد، أكون قد فقدت خمسة أحباء في أرض الشتات، ولا تزال المفاوضات جارية ..
بعد غد يُسدل الستار على فصل من فصول النكبة، وتبدأ نكبة عربية بحفلة تنكرية طائفية، للضحك على الحمقى.
بعد غد سيكون الوطن العربي كله فلسطين..وكلنا في عيونهم سواء، ولا زال هناك من يصارع لأجل خرم إبرة!..فماذا بعد؟