الحفاوة بالصحف التى تصدر تباعاً من القاهرة فى الفترة الأخيرة، أمر واجب لا ريب، لكن الحزن الذى يعترى المرء من جراء الاطلاع عليها لا يمكن تجاوزه، إذا كان الواحد منا مشغول بأحوال هذه الأمة ومستقبلها، وسأشرح لك تواً من أين يتسلل هذا الحزن!
لقد صدرت هذه الصحف فى الأعوام والشهور القليلة الماضية، وهى تتكئ على حرية غير مسبوقة فى نقد من تشاء من أصحاب السلطان، وهو أمر لم يكن متاحاً كما تعلم من قبل، كما أن القائمين عليها اهتموا اهتماماً كبيراً بالإخراج والتبويب حتى يتخففوا من أسر النمط السائد والعقيم لشكل الصحيفة الذى رسخته الجرائد الحكومية أعواماً طويلة.
كل هذا جميل وبديع، ولكن المؤسف أن معظم هذه الصحف الجديدة خلت من وجود دائم لصفحة ثقافية تحتل مكاناً محدداً يليق بالإبداع المصرى والعربى. هذه الإزاحة - أو النفى - للصفحة الثقافية يحرم القارئ من حقه فى تلقى الخدمة الثقافية التى يبحث عنها، كما أنه يخل بدور الصحيفة فى تنوير الناس، إذا اعتبرنا أن الثقافة - بمعناها الواسع وليس الضيق - تسهم فى إثراء العقل وإغناء الوجدان وإمتاع النفس.
أعرف جيداً الحجج التى يسوقها المسئولون عن هذه الصحف تعبيراً عن موقفهم المناوئ - هل أقول المعادى؟ - لوجود صفحة متخصصة للثقافة! فهم يظنون خطأ أن هذه الصفحة لا يقبل على مطالعتها القارئ العام حالياً، وأن اهتمامات الناس هذه الأيام تنصرف إلى شئون السياسة والرياضة والفن والحوادث فقط، هذه القناعة المغلوطة هى التى أدت بكل أسف إلى غياب الصفحة الثقافية من المطبوعات الجديدة، صحيح أن المجتمع المصرى يكابد منذ أربعين عاماً تقريباً حالة من التدهور على كافة المستويات، لعل أبرزها اعتلال الصحة الثقافية للناس بصورة كبيرة، إلا أن ذلك لا يبرر أن يقدم رؤساء التحرير الجدد على الإطاحة بالصفحة المنوط بها حلحلة الوضع الثقافى البائس أصلاً. (افتح هذا القوس لأذكرك بأننى لا أتحدث عن الأمية الأبجدية التى بلغت 100 مليون عربى أكثر من ربعهم فى مصر)!
هناك أمر آخر لا يقل أهمية فى تفاقم هذه المشكلة وهو غياب المحرر الثقافى الناجح والمتألق الذى يمتلك خيالاً خصباً وقدرات صحفية متميزة حتى يتمكن من تحرير صفحة ثقافية تواكب العصر وتغرى القارئ بالاطلاع عليها.
هذا الغياب يسهم لا ريب فى تيسير الإطاحة بالصفحة الثقافية من أى تبويب جديد. ولعلك تدرك جيداً أن هذه الصفحة المسكينة هى الضحية الأولى لأى إعلان يرد إلى المطبوعة، حيث لا يجرؤ أى رئيس تحرير على إلغاء أو تأجيل صفحة الرياضة أو الحوادث مثلاً، لكن ما أسهل أن يتم إرجاء الصفحة الثقافية إلى العدد القادم أو حتى بعد القادم! إن إعادة الكرامة المهدورة للصفحة الثقافية أمر واجب، وتطويرها تحريرياً وإخراجياً ضرورة حتمية، حتى لا تنهش أنياب الجهل عقول قراء هذا الزمان.
ملاحظة أخيرة:
إذا أردت أن تتأكد من كلامى من أن الصحف الجديدة لا تحترم الثقافة، عليك فقط أن تطالع ترويسة معظم هذه الصحف لترى أنهم كتبوا أسماء كافة المسئولين عن الصفحات التحريرية من سياسة وتحقيقات ورياضة وفن،...إلخ حتى محرر الديسك والمدقق اللغوى، أى أن أسماء جميع المسئولين تزين »الترويسة«، باستثناء اسم المسئول عن الصفحة الثقافية، لأنها ببساطة غير موجودة