عاش وحيداً.. ومات بعيداً عن منزل أسرته.. لم تقتله سيارة مسرعة، ولم يلفظ أنفاسه بسبب مضاعفات مرض خطير.. محمود قتله البرق الذى اختاره ليصعق جسده بشحنة كهربية هائلة.
ترك منزله كعادته كل صباح.. لم يبالِ بأصوات الرعد والبرق التى تشق السحاب وتصيب الأطفال والصبية من أقرانه بالخوف والرعب. السماء فتحت بوابات الماء لتنساب بغزازة شديدة تغرق الطرق وتغطيها بالوحل.. الشمس بحرارتها الشديدة وأشعتها القوية غابت خلف السحب الكثيفة.. المتشحة بالسواد.. موجات البرق تشق الظلام.. إحداها لاحقته لتطيح بمحمود فى الهواء.. ليحترق جسده النحيل وهو يعمل بأحد الحقول.. صاحب العمل حمل ما تبقى من الجسد المحترق إلى المستشفى.. ولكن الإصابات كانت أقوى من إمكانات المستشفى ومهارات الأطباء.. لتأخر الإسعافات.. وسرعة القدر.. مات محمود محترقاً بلهيب البرق والحياة القاسية التى أجبرته على الخروج إلى العمل فى مثل هذه الأجواء الصعبة.. فشقيقته الصغرى وطبيب الوحدة الصحية لم يقدم لها سوى ورقة «روشتة» قال لأمه أنه سيذهب إلى للعمل لشراء الدواء.. محمود رغم صغر سنه إلا أن صدمة فقدان الأب جعلته يقفز بعمره سنوات إلى الأمام.. ليكون فى مصاف الكبار هما.. ومسئولية.
صورة مؤلمة للمشهد الأخير فى حياة صبى قبل تحدى الزمن.. واحترق ولم يصل إلى المستشفى إلا بعد أكثر من ساعة.. وهناك انتظر طويلا حتى جاء الأطباء الذين هربوا من برد الاستقبال إلى استراحاتهم.. ومات محمود.
..المشهد المؤلم تكرر صباح السبت الماضى على طريق السويس وقبل كيلو مترين من مدينة الشروق.. 14 شخصا تناثروا على جانبى الطريق.. وكأنها صورة قادمة من غزة عقب غارة إسرائيلية.. توقفنا.. كل المارة تقريبا.. وتبارينا فى طلب الإسعاف.. ولكن مر وقت طويل.. أكثر من نصف ساعة وصلت بعدها سيارة واحدة.. لكن كل الضحايا إصاباتهم خطيرة فهم ركاب ميكروباص طار فى الهواء وانقلب.. ليتحول فى لحظات إلى حطام يطبق عليهم.. وبعد نصف ساعة ثانية وصلت سيارة إسعاف أخرى.. واضطر قائدو السيارات المارة على الطريق إلى وضع المصابين بعضهم فوق بعض.. رغم خطورة ذلك على حياتهم.. أحدهم كان مسجى على ظهره.. الدماء تغطى وجهه إصابته خطيرة.. يرفع السبابة إلى أعلى وكان يناجى ربه طالبا الرحمة.. ويقرأ الشهادة.. فهو أمضى قرابة ساعة ينزف ويناجى ربه فى هدوء.. كلنا حاولنا أن نهدئ من مخاوف انفراد الموت به على جانب الطريق.. حتى دون محاولة من أحد لإنقاذه هانت عليه نفسه وبكى من الإهمال والألم.. أنات المصابين على جانبى الطريق لن يسمعها وزير الصحة.. آخرون منهم صمتوا تماما.. ولم نجد سوى الدعاء لهم ليس بالرحمة فقط ولكن.. كنا نقول «سيارة إسعاف يارب»..