في آخر دراسة نفسية أعدها معهد راند الأمريكي في شهر نيسان/أبريل المنصرم، أكد فيها أن 20% من الجنود الذين خدموا في العراق وأفغانستان يعانون من اضطرابات نفسية واصابات دماغية. صحيح أن معهد راند الصحي لم يربط هذه النسبة الملحوظة بمعدلات الانتحار المتصاعدة. ربما لأسباب سياسية أو اجتماعية أو الاثنين معاً، إلا أن الترابط المنطقي بين الحالتين واضح للعيان. بدليل أن وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس طالب من قادة الجيش أن يحثوا جنودهم العائدين من العراق وأفغانستان بالاستفادة من برامج المساعدة النفسية لاحتواء الآثار غير المرئية من جراء الحرب في هذين البلدين.
أن تزايد نسبة الانتحار بين صفوف الجنود الأمريكان أصبحت حقيقة تؤكد مدى حجم الكارثة التي يعانيها الجيش الأمريكي؛ والتي ستنعكس سلبياتها داخل المجتمع الأمريكي آجلاً أو عاجلاً. لذلك فقد ترأس توماس إنسيل مدير معهد الصحة النفسية في ميرلاند، وهو أعلى جهة حكومية بالولايات المتحدة في مجال الصحة النفسية. وبعد عدة شهور من الدراسة والبحث والمسح الدقيق التي أجراها المعهد على أكثر من مليون جندي خدموا بالعراق، وجد ما بين 18 إلى 20% يعانون من حالات المرض النفسي والانهيار العصبي. كما وتوصل المعهد إلى أن عدد الجنود الذين انتحروا بعد عودتهم من العراق يمكن أن يفوق عدد الجنود الذين قتلوا في العراق منذ الغزو الأمريكي في شهر أيار/مارس عام 2003. وأكد إنسيل في مؤتمره بأن نسبة 70% من هؤلاء الجنود لا يطلبون المساعدة الصحية من وزارة الدفاع أو من دائرة المحاربين القدماء. وهذا يعني حسب تصوره بأن حالات الانتحار سوف تتفاقم أكثر مما تزيد من عدد خسائر الأرواح في هذه الحرب. فضلاً عن حالات الإدمان على المخدرات والكوحليات التي تهدد حياتهم أيضاً.
أن هذه الحقيقة المرعبة أجبرت روبرت غيتس أن يقول: "نحن لا نطالب الجنود بعد الآن بالإقرار بحصولهم على علاج لمشاكل نفسية ناتجة عن مشاركتهم في القتال إن كانوا يريدون التقدم على تراخيص أمنية". والغاية من ذلك لكي يكسر الحواجز ويزيح المعوقات التي تمنع الجنود العائدين من العراق خصوصاً للاستفادة من برامج التأهيل النفسي.
أن تقرير "معهد الصحة النفسية" قد أحرج الناطقة الرسمية لوزارة الدفاع سينثيا سميث، مما جعلها تلوذ بالعبارات التالية: أن المسؤولين في البنتاغون ينظرون إلى حوادث انتحار الجنود العائدين من العراق باهتمام بالغ.
تٌرى ما جدوى هذا "الاهتمام" إن كان محصوراً ضمن نطاق العلاج الصحي، بينما العلاج الحقيقي يكمن في القرار السياسي الصائب. بيد أن إدارة بوش كانت وما زالت لا تصدر غير القرار الخائب. أن صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية التي ما فتأت بتكرار طلبها في سحب القوات الأمريكية من العراق. فأنها أعادة كرتها مؤخراً وناشدت بالخروج من النفق العراقي المظلم. حيث أن بوش لا يمكن أن يعيش مع الخطأ الذي أرتكبه. وأشارت إلى أن الأمر يبدو مضللآً للغاية خلال مضي بوش في حربه على العراق.
أن الأسباب التي تؤدي إلى الانتحار كثيرة ومتنوعة، أهمها اليأس والقنوط وفقدان الأمل نهائياً. فالجندي الأمريكي الذي زجته حكومته بحرب باطلة جائرة لا يجني من تضحيته لها سوى خسارة حياته من أجل قرارات سياسية مغشوشة الحقائق تنصل منها معظم صانعوها من المحافظين الجدد ولم يبقى مرغما عليها سوى الرئيس ونائبه بوش وتشيني. وهما الآن ينتظران يوم 20-1-2009 لتسليم مقاليد السلطة والانزواء جانباً تلاحقهم أرواح ضحاياهم من الأمريكيين والعراقيين والأفغانيين على وجه الخصوص.
أن الجندي الأمريكي الذي يقدم على الانتحار، فأن القيادة السياسية تتحمل جزء من مسؤولية هذا الموت، إن لم يكن اجتماعياً فعلى الأقل أخلاقياً. ولكن ماذا بامكان الجنود أن يقولوا لرئيسهم الذي يساوي بين تضحياتهم التي تجاوزت الأربعة ألاف قتيل حسب زعمهم وبين تضحيته بترك لعبة الغولف! وفق تصوري الشخصي، على بوش أن يشارك الجنود العائدين من العراق ويذهب معهم للعلاج النفسي.
عندما تصرح من بغداد رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي مشيرة إلى ضرورة إنهاء الحرب التي استنزفت الولايات المتحدة الكثير من الأرواح والأموال وقللت من هيبتها أمام العالم. بل واعترفت أيضاً بأن هذه الحرب قد "استنزفت الكثير من قدرات جيشنا". بدليل زيارتها هذه كسابقتها في العام الماضي، فجائية حيث لم تعلن عنها لقضايا أمنية، رغم ولوج جيشها في السنة السادسة من الاحتلال. ومع ذلك فأن تصريحاتها كانت ومازالت تلاقي الإذن الطرشة من بوش. وبالتالي فأن هذه المساجلات وغيرها من المجابهات العقيمة تقلل الأمل إن لم تمحيه في بعض نفوس الجنود المضطربة، فيتوارى التفاؤل ليحل محله القلق والتوجس من الأيام القادمة. لاسيما وأنهم يشتركون في قتال ليس فيه عزيمة المحارب المدافع عن وطنه وشعبه، بل فقط أداء الواجب الذي تطوعوا من أجله ويخضعون لشروطه.
أن المحنة التي خلقتها لنفسها أمريكا في العراق بسبب بلاهة الأخرق بوش، لم تنعكس على هيبتها واقتصادها وقوتها فقط. وإنما انعكست أيضاً على معنويات أبنائها من الجنود الذين سلكوا الانتحار طريقاً للهروب الأبدي من سياسة دولتهم التي تشن حروباً لا قانونية ولا أخلاقية ولا إنسانية.
أن أكثر من 4000 منتحراً ونحو 300،000 يعانون من الخلل والإرهاق نفسياً وعصبياً، مما يؤشر قطعاً على زيادة نسبة الانتحار مع مرور الأيام والأسابيع القادمة. فأن هذا التخطيط القتالي برمته يعود إلى المقاومة العراقية عبر سلسلة هجماتها الفجائية القائمة على السرعة بالتنفيذ والانسحاب. وهذا التخطيط يعتبر من أهم وأخطر العوامل التي تسبب الإرهاق والإنهاك والفزع النفسي للجنود الأمريكان. كما وأن هذا العمل يعد حقاً من حقوق المقاومة الوطنية العراقية شرعاً وقانوناً. فهي تدافع عن أرضها ودينها الذي دنسه الاحتلال القادم من أقصى الأرض.
أن بوش وإدارته التعيسة تحاول بشتى السبل والوسائل أن تخلق صورة حسنة علها تترك إنطباعاً مقبولاً عند الشعب الأمريكي، بأن رئيسهم بعد ثمان سنوات مريرة قد ختم قيادته السياسية بشكل حسن. إلا أن هذا النهج المفتعل لا يتماها مع الأكاذيب والتضليل والإقلال من خطورة الحقائق في الواقع، ومنها تصاعد نسبة الانتحار بين الجنود الأمريكان.