المطلوب هنا ليس تراجع الحزب الوطنى مرة أخرى عن تراجعه الأول، ولكن المطلوب، إعلان نزيه عن تصورات الحزب لهذا المشروع.
حيلة ماكرة تلك التى اعتمدها بعض قادة الحزب الوطنى خلال مؤتمرهم السنوى الخامس، الحزب قرر استباق كل أصوات المعارضة أو النقد للمؤتمر، ووجه ضربة وقائية للمعارضين، بهجوم جماعى مباشر شارك فيه زكريا عزمى، وأحمد عز، ونخبة أخرى من القيادات الرسمية على قلب رجل واحد، الحزب يعلم أن الحدث لن يمر بلا مواجهة، وأن السياسات محل النقاش داخل هذا التجمع الحاشد، لن تعبر على القلوب والضمائر بلا مراجعة، فقرر قادته أن يكونوا هم أصحاب الضربة الأولى فى المعركة السياسية المحتملة.
المكر هنا من فضائل المعركة، خاصة إذا كانت كل المعارك السياسية بين الحزب وخصومه تدور فى (الكلام)، ولا شئ أبعد من الكلام، الحزب يفاخر الناس بإنجازاته (كلاما)، أرقام حول الإنجازات، والقفزات الكبرى، والمشروعات الرشيدة، والعدالة الإجتماعية، ومحاربة الفقر (كلام لم نشعر به بعد)، والمعارضة تفاخر كذلك بمواجهة الحزب (كلاما) أيضا، ضجيج وصخب وبيانات صحفية ومؤتمرات احتجاجية، ولا مشروعات بديلة أو خطوة فاعلة أكثر جدية، ونحن والناس فى معسكر ثالث، يتابع مبارزة جوفاء، وفعلا أقل.
ربما تعرف أنت، أنه لا شىء فى المؤتمر يدعو للتوقف، أكثر من هذه المباراة الماكرة، ولكننى أستأذنك فى أن أضيف لك مشهدا آخر، يدعو للتوقف يخص هذا الإعلان اللافت من الحزب، عن إحياء مشروع القاهرة 2050، بعد أن كان الرئيس نفسه قد ألغى هذا المشروع من قبل علنا، وعلى الهواء مباشرة العام الماضى!.
مشروع القاهرة 2050، هو أحد المشروعات التى أطلقها الحزب، وكانت محل جدل واسع قبل المؤتمر العام التاسع للحزب السنة الماضية، وكانت الصحافة الحكومية قد حولت هذا المشروع إلى حلم واسع الأفق، وبشرت الناس بسنغافورة جديدة فى القاهرة عام 2050، ثم كانت المفاجأة فى نهاية عام 2007، أن الرئيس نفسه، وفى قرار خاطف، قرر وقف هذا المشروع نهائيا، واعتبر أن الأولوية فى التفكير لمحدودى الدخل، والمشروعات الخاصة بالعدالة الاجتماعية، وليس لهذا النوع من المشروعات الحالمة.
وقتها عادت الصحافة المؤيدة للحزب والحكومة معا، لتعيد حساباتها من جديد، وأتذكر جيدا أن صحيفة عريقة هى الأهرام، أبرزت قرار الرئيس بخصوص إلغاء هذا المشروع، وإعطاء الأولوية لمشروعات (أكثر جدوى) وقال أحد كتاب الأعمدة فى الصحيفة مانصه:
(إن الرئيس تدخل لوقف أفكار مخملية حول القاهرة 2050، لينهى بذلك مضاربات كانت قد ظهرت انتهازا لمخططات ما زالت فى طور التفكير، وأضاف الكاتب: إن تدخلات مبارك لاقت ارتياحا شعبيا، كما لاقت بنفس القدر ترحيبا من خبراء الاقتصاد، الذين مازالوا يعيرون للأبعاد الاجتماعية قدرها المعلوم فى إدارة الاقتصاد الوطنى).
ماذا حدث إذن؟
إن كان إلغاء مشروع القاهرة 2050 لاقى هذا الاستحسان الشعبى على حد وصف الأهرام، فما الذى جرى ليعيد الحزب طرحه بهذا المستوى فى المؤتمر السنوى الخامس للحزب، وما الذى دفع الحزب لمعاكسة هذا الارتياح الشعبى خلال أقل من عام واحد على إلغاء المشروع؟.
ثم والأهم، هل هذا الطرح حول القاهرة 2050، يدعم توجهات رئيس الوزراء التى أعلنها فى حواره مع الأهرام الأسبوع قبل الماضى، والذى أشار فيه إلى خطة تصفية البؤر العشوائية وسط القاهرة، ونقلها إلى مدن جديدة، وبيع أراضى عشوائيات القاهرة إلى المستثمرين؟.
لا يمكن لأحد أن يعارض التطوير، لكن لا يمكن لعاقل أن يلتزم الصمت إن كانت السياسات تتغير وتتبدل فى أشهر معدودات على هذا النحو، وفى الحالتين (الموافقة على المشروع أو إلغائه)، تخرج الصحافة الرسمية لتقول إن القرار لاقى ارتياحا شعبيا.
المطلوب هنا ليس تراجع الحزب الوطنى مرة أخرى عن تراجعه الأول، ولكن المطلوب، إعلان نزيه عن تصورات الحزب لهذا المشروع، وعن الرابحين والخاسرين من تنفيذه، وعن مستقبل ملايين الفقراء، الذين قد يضارون أو يشردون، أو يحرمون من حياتهم الطبيعية، أو تنتزع منهم بيوتهم وأرزاقهم باسم تطوير القاهرة 2020 ثم 2050.
لماذا قرروا المشروع فى البداية، ثم لماذا جرى الإعلان عن إلغائه، ثم لماذا طرحه الحزب مجددا بهذا الحماس فى المؤتمر الأخير؟.