--------------------------------------------------------------------------------
لا أستطيع أن أخفى شعورا بحرج شديد يضغط علىّ وأنا أكتب هذه الصفحات ، ذلك أن هناك تلاميذ وأصدقاء ممن أصبحوا أعضاء هيئة التدريس بهذه الجامعات أعتز بهم غاية ما يكون الاعتزاز ، لا لمجرد علاقة الصداقة والزمالة والود ، وإنما لأنهم يمثلون فئة لم تمسسها النار التي أشرنا ، وسوف نشير إلى المزيد منها .
لكننا دائما نضع أنفسنا في موضع " الشهود " ، فقرآننا الكريم يؤكد على صدق الشهادة والبوح بها حيث أن من لا يفعل ذلك فهو " آثم قلبه " !
وقديما قال أرسطو عندما عاتبه البعض على نقده لأستاذه أفلاطون ، أن أفلاطون حقيقة هو أستاذه ، لكن الحق أعز لديه من أستاذه !
كيف حصلت هذه الجامعات بعد ذلك على كوادرها الأكاديمية ؟
في جامعة أسيوط ، حيث كانت القواعد والمعايير نصب عين المنشئين ، أرسلت بعثات قبل افتتاح الجامعة ، لأن جامعة بغير أعضاء هيئة تدريس عبث وأى عبث ، فهم قواها العاملة وطاقاتها المُسيِّرة ، لكن في جامعاتنا الإقليمية الأخرى حدث العكس ، وكان طبيعيا أن ترى عددا غير قليل من الكليات ، يقودها شخص واحد هو العميد ، ونظرا لانعدام وجود الهياكل العلمية من أقسام ومجالس أقسام ، كان العميد هنا هو الحاكم بأمر الله على وجه التقريب ، مما فتح الباب لتعيينات قد لا تكون على سنة الله ورسوله إذا صح هذا التشبيه .
ونظرا لأن ما تم إقامته هو مجموعة من الكليات المتناثرة في المحافظات ، كان من الطبيعى أن تلحق هذه الكليات بأقرب جامعة لها ، لكن ، في ظل هذا رأينا الكثير من صور الهدر في إدارة وتنظيم هذه الكيات ، التي كانت تدار من أعلى مركزيا ، وعلى سبيل المثال ، فقد وجدت جامعة مثل جامعة أسيوط نفسها تدير وتشرف على كليات تبعد عنها مئات الكيلومترات من موقعها في أسيوط حتى أسوان ..فى قنا وسوهاج وأسوان ، مما كان يحرم هذه الكيات من الحصول على بعض المزايا المالية والإدارية التي كان المركز يستأثر بها ، بالإضافة إلى كل ما يمكن تصوره من سوءات المركزية المعروفة .
وإذا كانت بعض الكليات قد سعت إلى حل جزئى بانتداب أستاذ من كلية أقدم للإشراف على هذا القسم أو ذاك ، إلا أنه يظل " منتدبا " لا يجئ غالبا إلا يوما واحدا في الأسبوع ، مما يفوت عليه القيام بكثير من المسئوليات وخاصة تلك الخاصة بالتكوين والتنشئة للهيئة المعاونة ، وتوفير رصيد خبرة يتعلم منه الآخرون في إدارة الأقسام .
أقول هذا عن خبرة وليس مجرد المعرفة والسماع ، فقد أتيحت لى خبرة الإشراف على قسم أصول التربية – مثلا – ببنها ، وكذلك بتربية الإسماعيلية ، منذ أكثر من ربع قرن من الزمان ، والسويس ، منذ فترة أقل من ذلك .
كنت ، حقيقة لا ادعاء ، أبذل أقصى ما أستطيع من جهد لتسيير العمل ، لكن يظل القصور سيفا لا مهرب منه ألا وهو ميزانية الوقت الذى أقضيه ، فهو لا يزيد عن يوم في الأسبوع ، حيث يظل العمل الأصلى في تربية عين شمس هو صاحب الأولوية الكبرى .
ومن أولى الفئات التي فتح الباب لها للكيات الإقليمية : الهيئة المعاونة من معيدين ومدرسين مساعدين ..
صحيح أن عددا منهم قد تم اختياره وفق معايير جامعية قانونية ، لكن بعد مرور بعض الوقت ، كان هذا يتم الالتفاف عليه من المنبع ، أى من حيث " صنع " نتيجة للسنة الأخيرة تتيح الفرصة لهذا أو ذاك للتعيين . ودون قصد التجريح ، فهذا أمر تقرره الدراسات الاجتماعية بوضوح ، ألا وهو غلبة العلاقات القرابية والشخصية في المجتمع الريفى ، والأقل تقدما ، مما يتيح الفرصة حتى في الامتحانات والتصحيح ، أن يحدث ما يتفق والقواعد والأصول .
في إحدى الكليات ، كان الأستاذ المنتدب من القاهرة ، يجد نفسه ، في نهاية الامتحانات مطالبا بأن يصحح المئات من أوراق الإجابة في فترة قصيرة للغاية .، حتى يمكن أن يعود بعد ليلة أو ليلتين على الأكثر ، وهنا يتقدم بعض المعيدين لعرض مساعداتهم على الأستاذ القاهرى ، فيجد في هذا " نجدة " ، خاصة وأن قيام الهيئة المعاونة بتصحيح أوراق الإجابة الخاصة ببعض الأساتذة أمر قائم بالفعل في كل الجامعات بغير استثناء ، إلا من رحم ربى .
المشكلة في الحالة التي نشير إليها أن بعض هؤلاء المعيدين كانوا في الوقت نفسه أعضاء في الكنترول ، أى أن باستطاعتهم أن يعرفوا أصحاب بعض الأوراق الامتحانية ، فتكون هناك فرصة " للبحبحة " في إعطاء الدرجات لمن يُراد له أن يحصل على نتيجة متفوقة ، فتتاح له الفرصة لأن يٌُختار معيدا .
ولم يقتصر الأمر على ما يبذله مثل هؤلاء المعيدين ، فقد فعل الشئ نفسه أعضاء هيئة تدريس ، بحكم قلة عددهم ، وقلة القيادات القائمة بالكلية ، ألا وهو التدخل من المنبع ، بحيث تصبح نتيجة هذا أو ذاك عالية الدرجات ليصبح أو لتصبح معيدا أو معيدة !!
وقد شاهدت في بعض الكليات أبناء وأقارب لكبار جامعيين أو غيرهم ، بالقاهرة ، يُعينون معيدين بكليات إقليمية ، حيث لا يحضرون إلا يوما أو يومين ، وبعد فترة قصيرة ، يتم نقلهم إلى كليات مماثلة بالقاهرة ، بحيث اعتبرت الكيات الإقليمية " معبرا " و " سلما " ، يتحملون المكوث فيها وتحمل مشقة السفر من وإلى القاهرة بعض الوقت ، ثم يتم النقل ، لتحظى القاهرة بالعناصر التي كان من المفترض أن تتغذى بها الكليات الإقليمية .
وفى كثير من الأحيان كان المعيدون والمدرسون المساعدون هم الذين يقومون بالتدريس ، وإن أشارت الجداول الورقية إلى أن أساتذة هم المكلفون بالتدريس ، وكان هذا من أخطر ما أصاب الجسم الجامعى بالمرض العضال ..شخص لم يتم تكوينه بعد يجد نفسه جالسا على كرسى التعليم ، فتنتفخ أوداجه ويتضخم مفهوم الذات لديه ، خاصة وأن الطلاب ينظرون إليه على اعتبار أنه هو " الأستاذ " ، وينادونه " بالدكتور " قبل أن يحصل على الدكتوراه ، حتى أصبح هذا عرفا في جميع الجامعات أن يخاطب الطلاب ، بل والهيئة المعاونة نفسها بعضهم بعضا بلقب " دكتور " !
ولو تساءلنا عن مستوى المادة العلمية التي كانت تُقدم على أيدى الكثير من هؤلاء – إلا من رحم ربى – لبان لنا عِظَم الكارثة . فإذا عرفنا ما تؤكده الدراسات النفسية من أن الخبرة الأولى لها دور حاسم في تحديد المسار في هذا المجال أو ذاك ، لتبين لنا أن هذا التبكير في تصدى الهيئة المعاونة للتدريس الجامعى كان مصيبة كبيرة حقا لأن كثيرا من أساليبهم التي بدءوا بها ، استمرت معهم وكبرت عندما كبروا وصاروا بالفعل أساتذة بحق وحقيق .
أقول هذا مع علمى بأن هناك من المعيدين والمدرسين المساعدين من كانوا أصلب عودا واجتهادا من بعض أعضاء هيئة التدريس ، لكن هؤلاء كانوا قلة ، والقلة لا يُقاس عليها .
في إحدى الكليات ، عندما دخلت لألقى إحدى محاضراتى وجدت العدد ضخما يزيد عن طاقة المكان ، فاقترح أحد الطلاب أن ننتقل إلى قاعة أخرى حددها وأكد أن مساحتها أوسع ، فلما سألت : وهل تضمن خلوها من زميل آخر يلقى محاضراته ؟ قال إنه يعرف أن عدد طلابه أقل منا ، فنستأذنه في التبادل .
لم أشأ أن أترك هذا الاستئذان للطالب وسرت بنفسى لأستأذن صاحب القاعة ، ومن بُعد وجدت هيئة أستاذ ممشوق القوام ، لم أتبين ملامحه بدقة قبل أن أصل إليه ، لكن هيئته كانت توحى بأنه ليس مجرد أستاذ ، بل رئيس جامعة ، والطلاب يتزاحمون حوله ، وترتفع أصواتهم : يا دكتور ..يا دكتور ، فلما اقتربت منه لأستأذنه ، عرفت من هو ..إنه معيد في أحد الأقسام ، ما زال في بداية الطريق ، فإذا ينتفض قائما مرتبكا ، مما أدهش الطلاب حوله الذين كانوا ينظرون إليه باعتباره " سقفا " من أسقف التعليم ، ومن ثم فقد تحولوا للنظر إلىّ وكأنى رئيس الجمهورية ، ما دام " سقفهم " قد انتفض عندما رآنى أقترب منه !!
إن المعيد عندما يوضع في موقع أكبر منه كثيرا ، ولسنوات ، يرسخ في ذهنه ووجدانه تصور يتجاوز حقيقة مستواه وموقعه الأكاديمى ، فيؤدى هذا التصور ، وذاك الشعور دورا سلبيا في التنمية المهنية والأكاديمية ، فينخفض مستوى الطموح ، ولا يبذل ما يكفى من جهد متصل على هذا الطريق ..لقد ظن أنه وُلد كبيرا ، ونشأ ناضجا !!
لا تكون الولادة إذن طبيعية ، ولا سوية ..
كانت أولى الكيات التي تُنشأ إقليميا هى كليات التربية ، نظرا لوجود تلك المشكلة التي كانت " صداعا " مستمرا للدولة ألا وهى اغتراب المدرسين والمدرسات حيث كان يتم تعيين أعداد غير قليلة من خريجى القاهرة والإسكندرية مدرسين في محافظات شتى ، بعضها يبعد كثيرا عن محل الإقامة ، وخاصة بالنسبة للمتزوجين ، فتتشتت الأسرة ، وتنشأ مشكلات ، فكان التفكير في إنشاء كليات تربية إقليميا لتغذى كل كلية إقليمها بالمدرسين اللازمين ، وكان هذا عدلا في حد ذاته .