فى تلك السنوات كان الطيب صالح فى حوالى الخامسة والثلاثين من عمره، وكان قد أنهى دراسته فى «كنجز كولدج» بجامعة لندن، وكان قد بدأ طريقه فى كتابة الرواية بعد محاولات فى كتابة الشعر.
لا أبالغ أدنى مبالغة حين أقول إننى أجد الطيب صالح فى روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» أكثر مما أجده فى الحياة التى جمعت بيننا. نحن فى الحياة نرى المظهر أكثر مما نرى الجوهر، ونلتفت للتفاصيل التى قد تحول بيننا وبين رؤية الشخصية فى صورتها المكتملة، ونبحث عما نشترك فيه أكثر مما نبحث عما يتميز به كل منا ويتفرد، أما فى الرواية وفى العمل الأدبى بشكل عام فالأمر مختلف جداً.
بقدر ما يسعى الإنسان فى الحياة للمحافظة على خصوصيته ويمنع الآخرين من أن يسترقوا السمع ويختلسوا النظر إليه، بقدر ما يسعى الكاتب للكشف عن شخصية بطله أو أبطاله، الإنسان يتستر ويتخفى، والكاتب يمزق الأستار ويهتك الأسرار، وسواء نقل عن الواقع أو تخيل فهو لا يقدم فى النهاية إلا ما يراه هو ويتخيله هو ويخشاه ويتمناه الكاتب لا يكشف فى الحقيقية إلا نفسه التى يصورها فى رواياته بطريق مباشر أو غير مباشر، أحياناً يوزع ملامحها على أبطاله، وأحياناً يخص بها بطلاً واحداً كما يحدث فى السيرة الذاتية أو فى الرواية التى تستوحيها وتقترب منها، وهو يصور عالمه ويتسفيد من خبراته وتجاربه الفعلية فى رسم الإطار الذى تدور فيه الحوادث وتتحرك الشخصيات، كما يصور نفسه من الداخل حين يتأمل الأشياء، ويحكم على التصرفات، ويقرر المصائر.
بوسعنا إذن أن نقول عن كل كاتب أننا نجده فى رواياته أكثر مما نجده فى حياته، وبقدر ما تكون الرواية راسخة البنيان ناضجة مقنعة بقدر ما تنبئ عن كاتبها وتصور شخصيته، فالإتقان دليل على الصدق، والصدق سبيل إلى الاتقان، وهذا الشرط، شرط الصدق ينطبق بوضوح على روايات الطيب صالح، وخاصة «موسم الهجرة إلى الشمال».
بطل الرواية - والواقع أن فيها عدة أبطال، وإن كانوا وجوها متعددة لبطل واحد - هذا البطل شاب سودانى فى الثلاثين من عمره، أو تجاوزها بسنوات قليلة، تلقى دراسته الابتدائية والمتوسطة فى السودان ومصر، وأكملها فى إنجلترا حيث حصل على الدكتوراه فى الشعر الإنجليزى الذى دفعه لدراسته أنه هو نفسه شاعر يحب الشعر ويحفظه وينظمه بلغته العربية، وهذه صفات ومؤهلات قريبة مما نعرفه عن الطيب صالح، خصوصاً فى الفترة التى كتب فيها روايته وهى أواسط الستينيات من القرن الماضى.
فى تلك السنوات كان الطيب صالح فى حوالى الخامسة والثلاثين من عمره، وكان قد أنهى دراسته فى «كنجز كولدج» بجامعة لندن، وكان قد بدأ طريقه فى كتابة الرواية بعد محاولات فى كتابة الشعر الذى كان الطيب صالح يعتبره أرفع الفنون الأدبية، مثله مثل كاتبنا وشاعرنا عباس محمود العقاد الذى كان يقول إن بيتا واحدا من الشعر يغنى عن رواية كاملة!.
ونحن نقرأ الرواية فنجد بطلها مصطفى سعيد ينشد لإحدى صديقاته الانجليزيات قصائد لأبى نواس وهو يشرب معها خمر التفاح، وربما انطلق لسانه بقصيدة مما يحفظه من الشعر الانجليزى، كما حدث فى إحدى السهرات حين تذكر قصيدة عن نساء الفلاندرز اللائى كن ينتظرن رجالهن الضائعين فى الحرب العالمية الأولى، وفى أوراق بطل الرواية الخاصة التى عثر عليها بعد انتحاره أو غرقه نجد محاولة من محاولاته فى نظم الشعر، يقول فى مطلعها:
عربدت فى الصدر آهات الحزين
ودموع القلب فاضت من تباريح السنين
ومن الواضح أنها إحدى محاولات الطيب صالح الذى جعل بطل الرواية شبيهاً له، والأثر الرومانتيكى واضح جداً فى هذا المطلع، وهو أثر متوقع فى محاولات كان صاحبها فى العشرين من عمره حين كان على محمود طه، وإبراهيم ناجى، ومحمود حسن إسماعيل وسواهم من كبار الرومانتيكيين العرب على قيد الحياة فى أواخر الأربعينيات من القرن الماضى، والأثر المصرى إذن واضح غاية الوضوح فى ثقافة الطيب صالح وفى أعماله واختياراته وأهمها خروجه من الشعر إلى الرواية التى عبّد المصريون طريقها.
ونعود بعد هذا الاستطراد إلى مسألة البطولة فى «موسم الهجرة إلى الشمال» فنقول إن البطولة فى هذه الرواية دور واحد يلعبه بطلان اثنان هما فى الحقيقة بطل واحد، مصطفى سعيد الذى تدور حوله الأحداث، والراوى الذى يقدمها لنا، والرواية تبدأ بالراوى الذى نستطيع أن نعتبره شبيها آخر أو شقيقا ثالثاً، فهو يشبه بطل الرواية من ناحية، وكاتبها من ناحية أخرى، وقد عاد الراوى من بعثته فى الشمال حيث درس الشعر الإنجليزى، تماماً كما فعل الطيب صالح ومصطفى سعيد بطل الرواية، عاد الراوى ليجد كل شىء على حاله فى قريته التى تركها فى أحضان النيل جنوب الخرطوم، الأهل، والشمس، والنهر، وشجرة الطلح، والجد الذى اقترب من التسعين برائحته الغريبة التى هى خليط من رائحة الضريح الكبير فى المقبرة ورائحة الطفل الرضيع، وصديق الطفولة محجوب المزارع، والشيخ طه ود الريس صديق جده الذى بلغ السبعين وتزوج خمس نساء، وصار لأحفاده أولاد، ومازال قوى الهمة يبحث عن أرملة أو ثيب، وبنت مجذوب، وهى امرأة طويلة، تقترب من السبعين ولاتزال فيها بقايا جمال، وكانت تدخن السجائر، وتشرب الخمر، وتحلف بالطلاق كأنها رجل فيتسابق الرجال والنساء لسماع حديثها لما فيه من جرأة وعدم تحرج هؤلاء وسواهم من أهل القرية توافدوا يرحبون بالابن العائد ويسألونه عن أوروبا والأوروبيين: هل المعيشة غالية أم رخيصة؟ وهل النساء حقاً سافرات يرقصن علانية مع الرجال؟ فيقول لهم: إن الأوروبيين، إذا استثنينا فوارق ضئيلة، مثلهم تماماً، يتزوجون، ويربون أولادهم بحسب التقاليد والأصول، ولهم أخلاق حسنة، وهم عموماً قوم طيبون، فتقول بنت مجذوب ضاحكة: خفنا أن تعود إلينا بنصرانية غلفاء! لكن الراوى يرى بين مستقبليه رجلاً لم يعرفه، ربعة، فى نحو الخمسين ليست له لحية، وشاربه أصغر قليلاً من شوارب الرجال فى البلد، رجل وسيم، ويسأل الراوى والده عنه فيجيبه: هذا مصطفى، غريب جاء منذ خمسة أعوام، اشترى مزرعة وبنى بيتا وتزوج حسنة بنت محمود، رجل فى حاله، لا يعرف الناس عنه إلا القليل.
هذا هو مصطفى سعيد، رسول العاصفة، وبطل الرواية أو بطلها الآخر، أو بطل الرواية الأخرى، «فموسم الهجرة إلى الشمال» روايتان أو حكايتان فى رواية واحدة، وقد بدأت الرواية بحكاية الراوى التى ما كادت تبدأ حتى انقطعت فجأة لتبدأ حكاية هذا الغريب المهاجر الذى أثار فضول الراوى، وحمله وحملنا معه إلى تاريخه الضبابى البعيد، ننقب فى أوراقه وصوره، ونقلب فى ذكرياته الأليمة الدامية.