حب مستتر تقديره هم
خلاف المعتاد، استيقظ باكراً هذا الصباح، على وقع همسات غريبة، كان كلما تململت أطرافه، خفتت حد الصمت، حتى اذا عاود سكونه بدأت تتصاعد من جديد، فآثر الاحتيال للحظات، بضبط توتره وتنظيم حركة انفاسه، عله يسترق السمع أكثر، ويعرف نهاية لمزحة صباحية ثقيلة الظل .
_ ش ش ش.. اخفضوا صوتكم أرجوكم، سيفسد حديثنا مزاجه الصباحي، ويصحو باكراً.. أتوسل اليكم.. بهدوء أكثر..
- أنتِ من يتحدث عن الهدوء الآن ؟ أنسيتي صراخك قبل دقيقه ؟ وقد صممت آذاننا بزهوك : أنا شاشته.. انا نافذته على الدنيا.. أنا.. أنا.. !!
- نعم.. ولي كل الحق، لا يجرؤ أحدكم على انكار أقدميتي على مكتبه هنا، لقد اقتناني منذ تسعة أعوام، ومذاك، تغازل عيناه العسليتان وجهي الزجاجي لحظة تلو الأخرى، لقد تذوق عبري كل ملذاته، فما من حبيبة ولا صديق ولا نص مقروء ولا كلمة مكتوبة الا وكنت جسرها، حتى إذ اعتلت صحتي، جال بي شوارع المدينة هائماً.. باحثأ عن فني محترف يعيد لي عافيتي، لأعود رفيقة عيناه الحميمة، أسعده وقتما أراد، أنا الأجدر بحبه إذن .
- عزيزتي.. كفاكِ أشعاراً، تتحدثين متجاهلة لوحة المفاتيح الرابضة أمامك على الداوم، أتحتاجين تذكيركِ بأني أمنح له أزراري المئة وخمسة وعشرون دون كلل ؟ أهب أصابعه الرشيقة عناقاً مجانيا معها، تأملي ذوبان الحروف فوقها كي تدركي الحقيقة، فما من فكرة دارت بخلده، أو مشاعر تخمرت في نفسه، أو صرخة دوت في أعماق قلبه، إلا وترجمها عبر أزراري، ووقعها على جسدي المستلقي طوعا تحت راحتيه، فلا حاجة للجدل الآن من الأجدر بحبه .
- حقاً أنتما تثيران فيي الضحك، قبل أن تكمل عيناه التفتح كل صباح، يأتي إلي متثاقل الخطى، متجاهلاً وجودكما، ليدير مفتاحي، فيداعب أثير إذاعته المفضلة عبري أذناه، منتشياً بذروة السبق، ولا زلت مستعداً للدوران لحظة شاء، دون ان يفكر بعناء الكهرباء، أما ظفره بلحظات الاتصال بالعالم وتمتعه ببرامج الثقافة والتسلية فأمر يطول شرحه، كفاكم هراء إذن ولتعترفا بأحقيتي في حبه .
تولدت على تقاسيم وجهه مشاريع ابتسامة حائرة، كان لا يزال مولياً ظهره لمكتبه، مذعوراً من همسات لا يعرف نسبة الحلم فيها من الحقيقة، وبذهول عيناه نصف المفتوحتان، تراءت له عينان أخريان، نبتتا على نصف وسادته المقابل، حملق فيهما للحظات، وبادلته فضول التأمل، حتى أتى صوتها:
صباح الخير سيدي..
لالا.. لست بحاجة لرد سبرته في عيناك، م م م.. اه.. أقدم لك نفسي.. ه ه عذرا.. يكاد الضحك يتملكني، إنه أمر جد مثير للسخرية، تبادل التعارف بعد هاتيك العشرة بيننا، .. نعم.. أنا وسادتك صديقي.. كيف حالك..؟
تأجج شروده أكثر، ما الذي كان يجري هناك !! إنه عاجز حتى عن السؤال، تكبل لسانه قوة غامضه، احتدت خطوط تجاعيده الفتيه أكثر على جبهته، واتسعت حدقتي عيناه، وأردا فركهما جيداً ليبدد غشاوة ما.. حتى عاودت وسادته الحديث:
أتفهم استغرابك سيدي، وأرجو أن تتقبل اعتذاري نيابة عن أصدقائي المتكئين على مكتبك، لقد توجست مراراً أن يفزع جدلهم الصاخب سكينتك، لكن أرجوك أن تلتمس لهم الأعذار، فعلى الرغم من عهدهم الطويل بك، الا أن عشرتهم معك لم تتفتق بعد، على الأقل بالمقارنة معي .
عفوا.. لست ممن يعشقون تزكية أنفسهم، لكن الواقع يقر بأني عهدتك قبلهم بكثير، لقد تقاسمت معك الليالي سنوات طوال، كنت تأوي إلي منهكاً، وفرحاً، وبائساً، تلقي برأسك المثخن بالشجون ومشاريع الأحلام وبقايا الانكسارات، هنا.. على صدري، لم تشكو أذناي يوماً ضجر استماعك، حتى أني تفردت بالائتمان على صمت دموعك، التي أبيت ذرفها خارجا بكبرياء رجل، بالرغم من ذلك، لم أمنح نفسي سلطة امتلاكك، فمعاشرتنا بلغت الحد الذي اترفع عنده عن ذاك الجدل .
كل صباح تنبلج السجالات بين أشياءك في غفلة منك، فما شهدته اليوم نسخة مصغرة فقط، فحاسوبك.. وهاتفك المحمول.. وتبغك.. ومرآتك.. وعطرك.. ومشطك.. ومعطفك.. تساجل مجددا.. وتناور، وستظل.. حتى تنضج في يوم ليس ببعيد، وتعرف نهاية حتمية لجدلها الطويل، وترضى بها معك وتسعد .
تضاءلت دائرتي عيناها حتى اختفت، وتبدد معها صوت تملك مسامعه بحكمته، وقتها لم يكن مهما تصديق ما جرى أو تكذيبه، فواقع يرتدي قناع الحلم بجاذبية كتلك، هو انفعال ادعى أن يعاش منفردا، مجردا من حسابات المنطق الأخرى، جل ما رغبه وقتها، اسدال ستار جفنيه ببطىء، آملا ان يفيق بعد ربع الساعة المتبقي لنومه، على قرع كؤوس أشياءه، محتفيةً بنخب ادراكها لجوهر الحب .
أيمن عويضة
كاتب مقيم في غزة