«بدونكِ أشعرُ أننى أعمى حقًّا. أمّا وأنا معكْ، فإنى أتوصّلُ إلى الشعور بالأشياء التى تحيطُ بى». هكذا كتبَ طه حسين لزوجته الفرنسية. وبعدما مات ردّتْ عليه، فى كتابها الفاتن: «معكَ»، الصادر عن دار المعارف 1982، تقول: «ذراعى لن تُمْسكَ بذراعك مجددًا، ويداى تبدوان لى الآن بلا فائدة!».
وأسألُ نفسى: يا تُرى كم بالمائة تحملُ سوزان طه حسين من إرث نجاحه وتفرّده الذى يشارف المعجزات؟ وكم، بالمقابل، حملتْ هى من أسباب هذا النجاح والتفرّد؟
ويتجددُ تردُّدُ السؤالُ فى أعماقى، كلما شارفتُ تخومَ هذا العالم المدهش، عالم مكفوفى البصر.
اقتربتُ من هذا العالم وأنا بعدُ فى طفولتى الأولى. حدث أنْ سقطَ جَدّى فى بئر المصعد لتنفصل شبكيتُه، فدخل بابَ العتمة الأبدية، بعدما كانت عيناه كلَّ زاده فى الحياة، بسبب حبّه المفرط للقراءة، والحياة. وحدث أنْ أصبحتُ أنا عينيه؛ أقرأ له، وأتعلمُ منه «فنَّ» القراءة.
فالقراءةُ فنُُّ يصْعُبُ فنَّ الكتابة. علّمنى كيف أقرأُ أغانى الأصفهانى والشوقيات والقرآنَ والأناجيلَ والزارادشتيات وغيرها، دون أن ألحنَ فى القول؛ فاستقام لسانى، بعدما استقامتْ أذنى مع بحور الخليل. كنتُ أنظرُ إلى دماغه أودُّ لو أشقّها لأسرقَ الكبسولةَ التى تحوى تلك العلومَ والفنونَ والمعارف، ثم أزرعها فى دماغى.
هكذا ببساطة! تماما مثلما ننقلُ شريحةً صغيرةً مُحملّة بالمعلومات من هاتف خلوىٍّ إلى آخر. وتحوّل حسدى إياه رغبةً مُلحّة فى أن ألجَ عالمَه المظلم. فأعودُ إلى غرفتى، بعد درس القراءة، أغمضُ عينىّ نصفَ ساعةٍ كاملةً، ثم أحاولُ أن أمارس طقوسَ يومى المعتادةَ دون عينين. فى محاولة مستميتة لأقبض على شعور جدى الأعمى. ثم أنخرطُ فى البكاء وقد أسقطتُ الكوبَ من فوق المكتب، وتعثرتُ فى السجادة فانخدشَ أنفى.
ولما أخفقُ فى البحث عن قطعة قطنٍ لأوقفَ خيطَ الدم النازف، أفتح جفنى قليلا لأسترقَ النظرَ، ثم أضمدُّ جرح أنفى، وأضمدُّ معه شعورى المرير بالذنب. ليس، وحسب، لأننى فتحتُ عينى وغششتُ فى اللعبة الوجودية اليومية، بل هو شعورٌ بالذنب لأننى مبصرةٌ بينما الآلافُ حول العالم لا يبصرون. وكبرتُ ولم يبرحنى السؤالُ: كيف يدبر هؤلاء النبلاءُ يومهم؟ النصفُ ساعةٍ الصعبةُ، التى أرهنُها من يومى للعتمة، هى أنصافُ ساعاتٍ، وساعاتُ، وأيامٌ، وشهورٌ، وسنواتٌ طوالٌ، وأعمارٌ، لدى أولئك الذين انطفأ عنهم نورُ البصر! فكيف يعالجون الأمر؟ والسؤالُ الأخطرُ: كيف وصل طه حسين إلى ما وصل إليه من معرفةٍ تملأ الأطلسىّ نورًا، وهو لا يكادُ يميّز بين زُرقةِ البحر وخضرة الشجر؟!
يرنُّ هاتفى الآن. يخبرنى «على الفاتح»، الصحفىّ بجريدة «العربى الناصرى»، أنه قد وصل مقهى «كوستا» الذى اتفقنا على اللقاء فيه. ويعاودنى الشعورُ بالذنب؛ إذْ اخترتُ مكانَ اللقاء على مرمى حجر من بيتى، بينما كان عليه أن يقطعَ المسافةَ من بيته بحدائق القبة، إلى مدينة الرحاب حيث أنا، مُصاحِبًا، لا أحدَ، سوى عتمتِه. كيف له، وهو من أولئك النبلاء، أن يعرفَ طريقَ المترو بزحامه وأنفاقه وجسوره وأخطاره، ثم الباص الذى سيوصله حدّى؟ لكنه عرف. ووصل فى الموعد! يقول لى: «هاعرفك إزاى؟ أنا مش باشوف! بصى، أنا لابس قميص لبنى ومعاى شنطة سمسونايت حمراء، فيقاطعه أحدٌ بجواره مُصحِّحًا، فيستطرد الفاتح ضاحكًا: قميصى يا ستى طلع كاروهات وشنطتى سودا، وأنا جالسٌ، أظن، فى مقدمة المقهى و..« فأقاطعه بارتباكٍ: لا تقلق يا صديقى أنا هاعرفك!«. وأذهب إليه. وأعرفه. أصافحه بحرارة وحب وإكبار، فيبادرنى: إن لم يخنى السمعُ، هل جئتِ بدراجة؟» فأحسدُ فراسته، وأصدق أن الحواسَ الأخرى تصبحُّ أحدَّ من شعرة معاوية؛ لذلك هم أقوياءُ! يستحقون الحسد والتقديرَ، وأيضًا، الفرحَ والخُيلاء بأن لنا أصدقاءَ مثلهم يحبوننا ويسعون إلى لقائنا، رغم المشقّة. رغم العتمة.
فى المرة القادمة سأحدثكم عن مشروعه البديع الذى أقامه بجهده الفردىّ مع مجموعة ممن آمنوا بأن النورَ محلُّه القلب لا العينان، انتصارا منه، ليس فقط للمكفوفين، بل لكلِّ من وضعتهم السماءُ فى اختباراتِ البَريَةِ، لتمنحهم مَكرُمةَ أن يفقدوا حاسةً من الحواس، ليخلقوا، بقوة حبهم الحياةَ، ألفَ حاسةٍ بديلة، تجعلهم أشدَّ بأسًا وفاعليةً وإنتاجًا من كثيرين من ذوى الحواس المكتملة، الذين ليسوا إلا أرقامًا فى سجلات التعداد السكانىّ، وعالةً على الحياة، وعبئًا ثقيلا على الطبيعة. مجلته الشهرية «شموعُ مصرية»، التى يترأسُ تحريرَها، أخرج منها حتى الآن أعدادًا سبعةَ، تصدر عن المجموعة النسائية لحقوق الإنسان. على الفاتح، تُصبحُ على نورٍ يا صديقى!