لفت انتباهي لجوء مثقفين يهود إلى كتابة تاريخينا وتاريخ المنطقة بما يخدم الرؤية الصهيونية وأطروحاتها القاضية بطمس معالم القضية، وتقويض الهوية الوطنية الفلسطينية، وتفتيت تاريخ البلاد، على نحوٍ لا يخلومن السطو والسرقة الفجة، الأمر الذي يدعو للتساؤل إن كان التاريخ يزور 'بجرة قلم'؟!.
نموذج 'كرني' والدولة اللا قومية!
ومن ذلك؛ نماذج عديدة اطلعت عليها مؤخراً، كان من ضمنها ما كتبه الصحفي الصهيوني 'يوأف كرني'[1]، في مجلة 'غلوبس' في واشنطن، حول ظاهر العمر الزيداني، وتاريخه، كحاكم في الجليل، فـ 'كرني' ينطلق من ذهنية أن العمر أقام دولته 'اللا قومية'! على 'أرض إسرائيل' منتصف القرن السادس عشر ميلادي!، حيث لم تكن القوميات آنذاك، بيدَ أن حدود دولة ظاهر العمر تُكذب 'كرني'؛ فهي ضمت إلى جانب فلسطين (الساحل الشمالي والجليل الأعلى)، أجزاءً من لبنان، وسورية، وشمالي الأردن (مدينتي إربد وعجلون)!.
ويبدو أن فكرة القومية تؤرق 'كرني'، فهو يقول باستقالالية إقليم فلسطين جغرافياً عن محيطه العربي، أي سلخه باعتباره 'إسرائيل' التوراتية، لذا لا يتوانى عن تكرار الإشارات حول اليهود في فلسطين خلال تلك الفترة (1741م)، لاسيما حينما أقام العمر شكلاً من التعايش الديني، مكتفياً بذكر يهود طبرية، مع إغفالهِ لمسيحيي البلاد، دون أن ينظر إلى التاريخ بحيادية، فالمتعارف عليه فلسطينياً، وعربياً، أن يهود فلسطين (ومنهم سمرة نابلس)، مواطنون في الأرض، وشركاء بها، قبل أن تتشكل الفكرة الصهيونية، المعلن عنها في بال / سويسرا عام 1897م، والتي وصلت إلى احتلال الأرض العربية عام 1948م.
ويتجاوز تضليل 'كرني' هذا الحد إلى تعريف العمر، وفقاً للرؤية الصهيونية القائلة أنه 'شيخ بدوي، جذوره من الجزيرة العربية'، وأنه 'ليس أصيلاً في الانتماء'، ولسانُ حاله يقول أن 'بعضَ' عرب فلسطين ليسوا أبناءَ كنعانَ، وإنما قبائلَ عربية نزحت واحتلت الأرض!.
مصادر التاريخ وعملية التزوير
ورغم أن المصادر الأكثر أهمية في توثيق تاريخ ظاهر العمر هي عربية[2]، إلا أن الكاتب يصر على استقاء معلوماته من المصادر الصهيونية، بل ويغمز بشكلٍ مريب إلى 'مؤرخين صهاينة لا فلسطينيين' كتبوا عن ظاهر العمر وما حققه من نهضة عمرانية!، مشيراً إلى عكا وحيفا وطبرية، فيما استشهد بشكلٍ أساسيٍّ بالمؤرخ 'اتسحاق بن تسفي'، وكتابه 'تاريخ أرض إسرائيل'!.
ويتبنى 'كرني' رؤية 'تسفي' في انهيار دولة العمر، موضحاً أنها افتقرت إلى الثورة الشعبية الطامحة إلى الاستقلال السياسي!، وهنا تزوير آخر للتاريخ؛ فانتفاضة أهل البعنة[3]عام 1721م، عبرت عن رفضها لسياسة دفع 'مال الميري'[4]، فيما ثار الشيخ محمد النصار (من وجهاء طبرية المحليين) عام 1725م ضد سلطة الحاكم التركي، ما يعني أن هبات وثورات شعبية انطلقت في أكثر من مكان، لرفض سياسات القمع والإقصاء، وسياسة التتريك المبكرة، فما كانت حركة ظاهر العمر إلا تعبيراً عن هذا الحراك الشعبي، الذي توِّج عام 1744م باستقلال دولة عربية في بلاد الشام انتهت عام 1775م.
سياسة متناقضة أم ماذا؟
وفي ذات السياق؛ نجدُ حراكاً صهيونياً لسرقة التاريخ الفلسطيني والاحتفاء به باعتباره جزءًا من تاريخ 'إسرائيل'، من ذلك الدعوة إلى الاحتفال بالذكرى الـ 250 لتأسيس 'حيفا العربية' على يد ظاهر العمر!، في الوقت الذي يسعى فيه صهاينة إلى تحويل مسجد ظاهر العمر5 إلى 'كنيس'، بزعمِ أن هذا المسجد بني على أنقاضِ معبدٍ يهودي، فعلى ماذا بنت حيفا؟.
ولا خلاف عربياً في الاحتفال بعكا أو حيفا، وغيرهما من المدن الفلسطينية العريقة، ضمن رؤيتنا التي تستند على تاريخنا الموثق، بيدَ أن على 'كرني' وغيره من الكتاب الصهاينة الالتفات إلى أن الاحتلال الاستيطاني تسبب بوقف نمو المدن الساحلية الفلسطينية عمرانياً، فيما أحكمَ طوق خناقهِ حول مدن أخرى، ما تسبب في القضاء على الحرف التقليدية والمهنية، وتوقف العمران، ومحاصرة الأحياء العربية القديمة، والفتك بها باسم 'تطوير المدن'!.
هوامش:
[1] يوأف كرني: كاتب رئيسي للشؤون الخارجية 'الإسرائيلية'. كان مبعوثا بواشنطن وكاتب في نيويورك لصحيفة 'هآرتس' العبرية (1985-1992)، ومحللا سياسيا في صحيفة 'يديعوت أحرونوت'(1980-1985). محرر أخبار الخارج الأول في 'جلي تساهال' (1975-1979). عضو في مركز السلام الأمريكي بواشنطن (2003-2004).
[2] من أهم المصادر العربية التي كتبت عن تاريخ ظاهر العمر، المخطوطات التالية: تاريخ الشيخ ظاهر العمر الزيداني حاكم عكا وبلاد صفد – إبراهيم الصباغ، الروض الزاهر في تاريخ ظاهر – عبود الصباغ، بالإضافة إلى الكتب التالية: الظاهر عمر – توفيق معمر (الناصرة – مطبعة الحكيم، 1979)، ظاهر العمر وحكام جبل نابلس – إبراهيم الدنفي (مركز التوثيق والأبحاث – نابلس – جامعة النجاح)، والدراسات: تاريخ الشيخ ظاهر العمر الزيداني. مجلة المشرق، 1926م لـ عيسى إسكندر المعلوف، ظاهر العمر. الموسوعة البريطانية، الجزء الثالث عشر لـ أسعد مندور، ظاهر العمر. مجلة المقتطف، نيسان 1923م لـ جرجي يني.
[3] البعنة: قرية فلسطينية تقع على الطريق العام بين عكا وصفد، وإلى الشرق من عكا بنحو 18 كم، وترتفع 300 كم عن سطح البحر، والبعنة كلمة آرامية بمعنى بيت الغنم والضأن تقوم على بلدة بيت عناه الكنعانية العربية وعناه اسم إله سامي (أنظر؛ الدباغ، بلادنا فلسطين، ق 2، ج 7، ص 391).
[4] مال الميري: ضريبة لصالح خزينة الدولة العثمانية تقتطع من سكان البلاد، واشتق اسم الميري من كلمة 'أمير' العربية.
5 يذكر أن ظاهر العمر الزيداني، والي عكا في حينه، أمر ببناء هذا المسجد سنة 1748م في السوق العمومي وهو حاليا بدون مئذنة ويقع بالقرب من ميناء الصيادين، وهدمت مئذنته على أثر هزة أرضية في أواخر القرن التاسع عشر.