الشواهد كلها تنذر بكارثة، ولا أحد ينتبه.. حريق جديد في قطار، وعطل غريب في مترو الأنفاق، وحديث متواصل عن أوضاع متردية في مرفق السكة الحديد، فماذا ينتظر المسئولون حتي يهتموا بأرواح المواطنين؟.. هل بات التحرك بعد الفواجع عادة مصرية، أم أننا أدمنا المصائب؟.. آخر أجراس الخطر، أرسلها القطار 585 الذي كان متجها يوم الأحد من المنصورة إلي الإسكندرية، حيث شبت النيران في الجرار الذي يقطره أثناء دخوله كفر الزيات، ولولا العناية الإلهية، وفصل الجرار بسرعة عن باقي العربات، لحدثت كارثة لا تقل في
بشاعتها عما حدث قبل سنوات لقطار الصعيد.. وجاء هذا الإنذار بعد حوالي شهر من حريق مشابه تعرض له الجرار رقم 3453 الذي يقود قطار مطروح رقم 773 أثناء دخوله محطة مصر، قبل أن يتمكن رجال المطافئ من إنقاذ الموقف.
هنا في محطة مصر، تبدو وجوه الجميع متعبة، لكنها تحمل شيئا من الفرح بقرب لقاء الأهل والأحبة في الصعيد وبحري. بعضهم لا يحمل هما لرحلته، لأنهم من ركاب الدرجات العليا التي تتمتع بشيء من الرفاهية التي تيسر الطريق، وتقضي علي الملل، لكن الغالبية، وهم من الفقراء، تحسب ألف حساب وحساب للسفر بالقطار، فركوبه صعب، ومرور الساعات داخله مخيف، في حين أن الوصول إلي محطة النهاية محفوف بأخطار عديدة، ومع ذلك لا يجد هؤلاء بديلا عن خوض المغامرة، رافعين شعار 'المضطر يركب الصعب'.
ذكري فاجعة قطار الصعيد التي وقعت في فبراير 2001، وبلغ عدد ضحاياها 361 شهيدا ومئات المصابين، لا تفارق ذاكرة ركاب الدرجة الثالثة، وبالذات أولئك الذين يسلكون نفس الطريق من القاهرة إلي الصعيد، ويعرفون أن أسباب تلك الكارثة لا تزال موجودة بينهم، منبهة ومحذرة من لحظات ألم جديدة، لا يتمني أحد لمصر أن تعيشها.
'الأسبوع' عاشت ليلة كاملة مع هؤلاء الركاب.. كان موعد إقلاع القطار العاشرة والنصف مساء، لكن البسطاء المضطرين لركوبه يعرفون، بخبرة السنين، أنهم مطالبون بالذهاب إلي محطة مصر قبل ذلك بساعات، إن لم يكن لحجز تذكرة، فلاحتلال مقعد لن يجدوه لو استسلموا لجدول المواعيد.. هؤلاء يدركون أيضا أن الانتظار علي الرصيف ترف لا يمكن لهم ن يتمتعوا به، ولذلك يقطعون بأحمالهم الثقيلة مسافة طويلة للوصول إلي موقع تخزين القطار حتي يظفروا بمكان حتي لو كان بين العربات.. في المخزن، تغنيك المشاهد عن أي وصف، فهذا عجوز يتسول مساعدة مسئول المكان حتي يسمح له بالدخول، وتلك سيدة تترجي كي تصعد إلي عربة القطار، بينما تقف أخري لتعرض تفاصيل حالتها الصحية المتدهورة متصورة أن ذلك سيشفع لها عند صاحب القرار.. وعلي البعد تشاهد أيادي تمتد بأوراق مالية وأخري تتسلمها قبل ان تفتح الأبواب.. يمكنك هنا أن تلتقط ما تشاء من الصور، لكنك لن تستطيع أن تخرج بحصيلتك بسهولة، فقد تفاجأ، كما حدث مع محرر 'الأسبوع'، بأن 3 أشخاص يهجمون عليك، ويخطفون منك الكاميرا، ثم يقودونك إلي ضابط المحطة، ليخبرك - بكل أدب - أنه لا يعترض عملك، وإنما سيحذف الصور التي تضر، حسب قوله، بسمعة بعض الجهات.. أخيرا ستخرج من مكتب الضابط، وستبحث مجددا عن القطار الذي تريد الركوب فيه، غالبا لن تعرفه، لأن الأمور فيه تغيرت خلال غيابك الذي دام نصف ساعة فقط.
العربة التي يفترض أنها تقل 120 راكبا، باتت الآن مكتظة بأكثر من 300، قابلين للزيادة المستمرة كلما توقف القطار بإحدي المحطات، الممرات مزدحمة بالحقائب والأجولة وما شابه من أمتعة.. المشاجرات مع المحصلين حول أخذ العملات الفضية تطغي علي كل شيء، بينما الباعة الجائلون يتدافعون بين الركاب الواقفين غير مكترثين لا بسلامتهم، ولا براحتهم.. وفوق ذلك كله، يعاني الركاب من توقف القطار لفترات طويلة، كلما قابله قطار من الفئات الأعلي.
'كل ذلك بسيط'، قالها أحد الركاب، مشيرا إلي أن هناك ما هو أخطر، فالحمامات قذرة لدرجة مفزعة، والنوافذ متهالكة.. أما عناصر السلامة فغائبة تماما: 'طفاية واحدة لن تجدها في كل عربات القطار، بينما مسببات الحرائق منتشرة في كل مكان: مراتب وسجاد وأجهزة كهربائية، ما عليك إلا أن تلقي بقايا سيجارتك لتمسك النيران بكل شيء، وكأننا لم نتعلم من الكارثة السابقة'.
هذا الوضع يحتاج إلي إعادة نظر عاجلة، حسب تعبير الراكب محمد فتحي حسن الذي قال أيضا 'ما نعيشه في هذا القطار لا يمكن لأحد أن يصدقه.. القطار يعج بمشكلات كثيرة، والمسئولون لا يكترثون.. كأننا مواطنون خارج الخدمة'.. الراكب نفسه يتساءل: 'هل يمكن لأي مسئول أن يركب هذا القطار ويحتمل هذا الوضع؟'.. ورغم أن سعد عبدالله، وهو من أسيوط يشهد للحكومة ببذل جهود لتحسين الخدمات المقدمة لركاب الدرجة الثالثة، إلا أنه يطالب بتكثيف الرقابة، ويدعو إلي إسناد مهمة تنظيف القطارات لشركة أجنبية.
يدهشك في ركاب هذا القطار أنهم يدركون سوء وضعهم ومع ذلك لا تخلو تعليقاتهم من طرائف، فمحمد محمود (من جرجا) يحمٌل - بسخرية - ركاب قطار الدرجة الثالثة مسئولية هذا الوضع لأنهم 'سيئو الحظ وبسطاء'، في حين يقول أحمد عدلي (من نجع حمادي) إن ما قيل عن الإصلاحات في قطارات الدرجة الثالثة ما هو إلا حبر علي ورق، كان الهدف منه تسكين غضب المواطنين بعد كوارث السكة الحديد.. أما أحمد صالح، فرأي أن الحكومة لم تنفذ من هذه الإصلاحات سوي رفع أسعار التذاكر، وكأن الغلابة مطالبون بدفع الثمن ان لم يكن من أرواحهم فمن أرزاق أولادهم.