أَسَّسَ أغلبَ مَثَقَفو الجيل السابق، السِتِّيني وما بَعد السِّتيني ثَقافَتهم على مَصادر الثقافة العالمية ، أو الكَونية ، نَظراً لِضَعف المُثَقَّف العربي عن إنتاج فِكِر خَلاق ، قادر على مُحاكاةالواقِع، مما حَوَّلَ غالبية المثقفين إلى آنية تَحوي كُل ما يُسْكَب بِها ، أي أنَّ العَقِل لا يَعْمل (مُعَطَّل) ، والمَصْدَر الوحيد لِتحريك المُثَقَّف هوَ النَّقل عن الآخر ، الأمر الذي يَدفع بالمُتابع للسؤال حول الهَوَيَّة الثقافية العربية ؛ فما هِي مُكَوِّناتها ؟! ، وَهل تَملك مُسَمَّى الهَوية والكينونة أمام الآخر ؟!.
وَخِلافاً لما تأسس سابِقاً من نَقل أعمى لِكل ما هُوَ غربي الهَوِيَّة ، فإنَّ دَور الجيل الحالي يَجِب أن يَنصَب على القيام بِعملية فرز للبضاعة المُتَرجَمة من جيل الرُّواد ، وما بَعْد الرُّواد ، وَنبش بعض الجُثث الفِكرية الغَربية ، التي لا تزال تَحظى بمَهرجانات صاخِبة ، وَكِتابات وافرة عن المُلهِم الغربي الذي حَمَلَ شُعلة النور للإنسانية !!.
فَمن أينَ نَبدأ؟! ، سؤال افتراضي لواقع قائم !.
لا بَأس إن كانت حَفريات التَّنقيب عشوائية ، .. ولتكن كَذلك!.
الثغرة الأولى التي يُمْكِن أن نشير إليها ، أن مُجَرَّد "مانشيت" من صَحيفة فرنسية هو ذا مِصْداقية !، ومن المألوف على الصحافة والنشر في فرنسا القول عن سارتر بالعَظيم كَونهُ فرنسي ومن أعلام فَرنسا .. كما هوَ نابليون الذي يُعَد أيضاً علماً فرنسيًّا دفعَ شُهرة فرنسا إلى الأمام ، وذات الشَّيء فيما يَتَعَلَّق بِمجرم الحرب شارون .. فَهل خروج الصَّحافة " الإسرائيلية " بالقول " شارون ضَمير إسرائيل " هو كافٍ للأخذ بهذا العِنوان ! ، وتتسع الثغرة لتكون فجوة كبيرة عندما يقول الكاتب " ضمير الإنسانية " !! ، ولاحِقاً سَنَتَعَرَّف على هذا " الضَّمير ".. الغائب!.
ولا يقتصر الأمر على التبجيل ، بل يَدخل بنا بَعض النُّقاد في سِجالات تأتي على هامِش الأولويات لو تَحَدَّثنا عن الثقافة العربية ؛ سِجالات جان بول سارتر وألبير كامو ، الصَّداقة التي انقلبت فيما بَعد إلى تنافُس وَمناكفات ضِدِّيَّة ! ، مَثلاً : " خطاب إستوكهولم لألبير كامو كلام لإغاظة سارتر " _عنوان مقال _ ، وَيَرِد في المقال :
" والحقيقة أنَّ موقف سارتر السلبي الصامت من خطاب كامو في إستوكهولم ساهم في إشاعة الصمت العام حوله .. بل أعتبر من البديهيات التي لا تحتاج إلى مناقشة . وظلَّ أدب كامو (1913-1960) المولود في الجزائر والمناضِل طوال حياتهِ على جبهة الحرية الإنسانية ظل مع نزعة الحريَّة السارترية المسؤولة .. " (2).
ونقرأ في أحد الترجمات أن الفرنسية " سيمون دي بوفوار " الداعية للحرية الجنسية تتحدث عن صَداقَتها وعلاقَتها بسارتر وسواه(3).
لَنا أن نَسْتَشِف فيما سَبَق مدى عُمق النَّقِل الذي يقوم بِهِ مُترجمون وكتاب وناقِدون عرب ، فحتى أسفه التفاصيل يَتِم نَقلها ، مع التركيز على عبارات بعينها : " الحرية الإنسانية " ، " الإلتزام السارتري " ، و " النضال على طول جبهة الحرية الإنسانية " ..، وما شابَه ، مُقابل الصَّمت عن تَفاصيل سَترد في حينِهِ !.
ومقابل الحَديث عن يَوميات سارتر ، وَجمع مُذَكَّرات الرّجُل في دَفاتر الصُّحف العربية ، نَجد أنَّ هنالكَ فريقاً أكثر تَعَمُّقاً بما أنتجَ الرَّجُل من فِكر وَمسرح وَرِواية ، وتتم معالجة ما أنتج بطبيعة الحال بِشكل تَرويجي .
ما يَعنينا من سارتر ليسَ ما أنتج ، بل " الإلتزام السارتري " ، " الحرية السارترية " ، و" الالتزام السياسي " ، فالكمات واضحة تَدور في فَلَك الحُرِّية والأنسنة لمواقف الرجل ، فما هي مواقِفَهُ التي رَفعت بِهِ درجات ليكون صاحب المِئوية التي تَدفع " مُفَكِري " العرب نحوَ المهرجانات السارترية !.
الالتزام السِّياسي الذي يَنظر إليه كثير من المراقبين العرب بأنَّهُ موقف إنساني شُجاع ، هوَ توجه سارتر نحوَ رفض سياسة بلدهِ حيال استعمار الجزائر ، فهوَ يريد منها الخروج من بلد المليون شَهيد .. وهذا الموقف الذي شَكَّلَ شَمَّاعة السارتريين العرب وَمُريدِيهم ، فيهِ شَيء من السَّطحية ، فكثير من اليمين الأمريكي يُطالب الإدارة الأمريكية حالِيًّا بتعجيل الخروج من العراق تَقليلاً للخسائر، بل اليَمين الصُهيوني هُو المُبادر في الخروج (الانسحاب) من جنوب لبنان ، رُغم أنَّ اليمين واليسار ذراعاً واحِداً ، أو ذراعَيْن في جَسَدٍ واحِد ، فَهل مَوقِفَهم هذا يُسَجَّل لَهم تاريخيًّا لِخدمة الإنسانية والشعوب المُضطهدة ؟! ... .
سارتر على المَحَكْ ! :
هنالكَ مَحك يسعى بَعض أنصار سارتر في الوطن العربي لتجاوزه ، والقفز عنهُ ، وهوَ موقف سارتر من دولة الكيان الصهيوني ، وآراءه بالصراع العربي الصُّهيوني ، ولَدينا هنا شَهادة هامة ، من مَصدر مُهِم (كما أعتقد) ، حول ارتباط سارتر بـ الصُّهيونية ، أو على الأقل خُضوعِهِ لِـ الصهيونية .
ففي زيارة المفكر العربي الراحل إدوارد سعيد لِمنزل سارتر دارت عِدَّة حوارات ذات صِلة بما نَبْحَثْ، إلى جانب مراقبة إدوارد وَتحليلهِ لما يَدور داخل جُدران الغرفة من تَحرُّكات ، تَعكس في الحد الأدنى أنَّ صاحب " الالتزام السِّياسي " مُسَيَّر من الحركة الصهيونية العالمية .
أما البِطانة المُحيطة بِسارتر (كما يوضِح سعيد) فهي : ابنتهُ المُتبناة التي تنحدر من أصل جزائري ، وكانت تشغل مديرة أعمالهِ الأدبية ، و"ببير فيكتور" وهوَ ماوي (نسبةً لـ ماو سيتونغ) كانَ شريكا لـ سارتر في مجلة " اليسار البروليتاري" ، تَحَوَّلَ بَعدها إلى التَّدين وأصبحَ يهودِيًّا أرثوذكسيًّا ، ومن المُذهل لسعيد أن يَعْلَم لاحِقاً أنَّ أحد بطانة سارتر يهودي مَصْري يُدعى "بيني ليفي" ، شَقيق عادل رفعت (المولود تحت اسم ليفي)، وَمصري مُسْلِم هوَ محمود حسين، عَمِلا سَوِيًّا في "اليونيسكو" ، وَقَد أصدرا دراسة (العود في طَبقات مصر) باسم مُشترك ، أو ما باتَ يُعرف بِثنائي "محمود حسين" ، وَلَم يَكُن "فيكتور" بادِيًّا عليه على الإطلاق أنهُ يَهودي مِصري.
ووسط هذهِ الجوقة لَنا أن نتساءَل عن موقع الوجودي الفرنسي جون بول سارتر؟!، حيث يَتَّضِح أنَ سعيد (بَعدَ أن أصبَحَ عُضْواً في المجلس الوطني الفلسطيني عام 1977م) جاءَ بِهَدَف لباريس ، وهو أن يَخرج بِتصريح صَحَفي من سارتر يناصِر فيه القضية العربية في مواجهتها للأخطبوط الصهيوني ، خاصَّةً وأنَّ سارتر هوَ "صوت لجياع العالم والمضطهدين" ، وهو أب الحرية ، و"ضمير فرنسا الحر"، بل ضمير العالم والإنسانية .. الخ ، إلا أنَّ المُحَصِّلة النهائية التي خَرَجَ بها سَعيد كانت غير سعيدة ، فالرَّجل الوجودي حينَ طُلِبَ منهُ التَّصريح عن مناصرتهِ للعرب في قضيَّتِهم، لم يَتحدث بل تَحدَّثَ عنهُ "فيكتور" قائِلاً : "غَداً سَيَتَحَدَّث سارتر"!، هكذا وانفضت الجلسة ليوم الغد، وفي الغد المرتقب ، جاءَ سارتر بِصفحتين مطبوعتين على الآلة الطابعة بِهما ابتذال وسفاهة مُطلقة لشاجعة أنور السَّادات ، دونَ أي كلمة تشير لوجود إستيطان واحتلال لأي أرض عربية من طرف الحركة الصُّهيونية ، هذا هوَ تَصريح "ضَمير الإنسانية" المُبَجَّل لدى كثير من مُفكري العرب !.
: