أوقف "التاكسي" امام منزله، مد يده الى جيب قميصه، اخرج ما كان فيها من اوراق مالية عدها ثم اعادها الى حيث كانت ، تمتم بحمد الله ، "34 ديناراً –15 ديناراً لمالك التاكسي – 10 دنانير للبانزين – الباقي رزق العيال " حمد الله مرة ثانية، تناول كيساً كان بجانبه ، نزل من " التاكسي " تأكد من اغلاق الابواب، دار حولها وعندما ارتاح الى وقفتها دلف الى منزله.
حين قرع الباب ، جاءته اصوات اولاده "بابا … بابا " فتح اكبرهم الباب خطا خطوتين ، فتعلق به الاولاد الثلاثة ، ينظرون الى ما حمله بيده ، حين جلس على اقرب معقد ، جلس ثلاثتهم على الارض امامه ينتظرون بلهفه .
- من كان منكم الشقي اليوم كي اعاقبه بالحرمان ؟ سأل
جاءته الاصوات الثلاثة في الوقت نفسه تقول :
- انا كنت عاقلاً .
- نسأل امكم – قال ونادى بصوت عال – على من العقوبة اليوم ؟
- كلهم عاقلون – جاءه الرد من بعيد ، من المطبخ .
وزع عليهم ما احضره لهم ، فتوزعوا فرحين، حين اكتشف انه بقي لوحده ، نهض باتجاه المطبخ يستطلع العشاء الليلة. عاد ادراجه دون ان ينبس بكلمة ، دخل الى غرفة النوم غير ملابسة ، ثم عاد الى حيث اعتاد ان يجلس بانتظار ان يدعونه للعشاء .
كان يومه شاقاً الى حد ما، فحرارة الطقس بدأت بالارتفاع، والاختناقات المرورية زادت الطين بله والارهاق ارهاقا، ًوضغطت على الاعصاب، وضاعفت المعاناة وجعلته في حال لا يتمنى معها الا نوم يوم كامل، لكن الحياة لا تحتمل ، تذكر ان نهاية الشهر اوشكت وهذا يعني التزامات مالية ، اخذت في الآونة الاخيرة ترتفع وتيرتها ، بين "اجرة الدار " واستحقاق اقساط الابن الاكبر الذي وجب دفعه داعيك عن طوارئ لم يعد يخلو منها شهر.
تنهد … وهمس بينه وبين نفسه " نحرث " طيلة النهار وفي النهاية لا نصل ولو الى فتات ما يصل اليه المحظوظون المرفهون الذين لا يعرفون ماذا يفعلون بفائض دخولهم ، بعد ان يبالغوا في متطلبات حياتهم اليومية التي زخارف البطر فيها كلفته تعيل عائلة مثل عائلتي .ترى كيف يمضي هؤلاء ايام حياتهم . هم حتماً لا يعانون ما يعانيه امثالي يومياً ، بل اعرف ان منهم من لا يصحو قبل اذان الظهر . صحا من " سرحانة " على صوت اولاده .
- بابا … العشا جاهز .
تعشى وحين عاد الى حيث كان يجلس ، بقي صدى تساؤلاته عن حياة المترفين ، يرن في اذنيه و يتردد في تفكيره عندها تذكر حديثا دار بينه وبين آخرراكب اوصله الى حيث يريد كان شاباً لا يزال على مقاعد الجامعة . بدا عليه الانفعال لدرجة اثار عنده الفضول ليعرف ما به ، لكنه اعتاد ان لا يبادر من يركب معه الحديث، فتركه "يتأفاف " الى ان قال منفعلاً :
- تصور ثلاث سيارات في البيت وحين اصحو من النوم لا اجد ولا واحدة فاضطر للبحث عن تاكسي لالحق بموعدي .
- احمد الله – قال – لاني وقفت لك فانا في طريقي الى البيت ثم ان مشوارك بعيد.
- ما يزال الليل في اوله "بدري " فلماذا تغادر الان .
- "كفاها المولى" رزق اليوم … العشا مع الاولاد افضل من كل مال الدنيا .
تنهد الجامعي المنفعل وقال :
- احسدك ، انت بالف نعمة ، احمد الله على ما انت فيه .
- اذا كنت بالف نعمة كما تقول – فانتم بالف مليون نعمة ، اتمنى لو عشت يوماً واحداً في رحاب بيتك .
- " ما بدك اياها " – اجاب:
هل تصدق انني لم ار والدي منذ اسبوع ، وامي لا اذكر متى جالستها بحديث عادي ، نحن شقيقان وشقيقة وحيدة ، نادراً ما نجتمع على مائدة طعام ، ان تصادفنا في ممرات المنزل الكبير لا كلام بيننا ، يمضي كل الى غايته ، اتمنى لو كنت مكانك ، اتعشى عشاءك .
لم صدق الذي سمعه لم يكن يتخيل ان الحياة داخل هذه القصور على هذه الشاكله .
مع هذا قال : لو جرب معاناتنا اليومية لهرب الى حيث الراحة والرغبات المستجابة ، بيد انه استدرك لقد كان صادقاً منفعلاً وهو يتمنى ما تمناه ، قد يكون هؤلاء يعيشون حياة اسرية خالية من اي دفء اسري او حميميه تجمع بين افراد الاسرة الواحدة .
هل تخدعنا مظاهر نظن ان ما يلمع فيها ذهباً وان وراءها حياة ملؤها السعادة وتزينها المودة ويحيط بها التواصل في حين ان الحقيقة كما قالها هذا الشاب ، لا يلتقى الاب بابنه ولا الام بابنتها ولا يلتقون حول مائدة طعام … ممكن .
غلبه النعاس حين طارده هذا التفكير ، نهض من حيث وصل في حديثة مع نفسه وهمس "الحمد الله على ما نحن فيه " .
لاحظ ان زوجته التزمت الصمت كانها احست ما كان فيه ، قدر لها ذلك فقال : تصبحين على خير و مضى.